خاطرة «ستار الابتسام».. خواطر اجتماعية

حينما نصبح كالسحاب، نحمل خير أمطارنا لمن أحببنا، وننطلق كالسهام العاشقة ليستقر عطاؤنا في قلوب محبينا، ما ننتظر إلا تقديرًا لا أكثر، منحصرًا ذاك التقدير بين نظرة حب أو كلمة شكرٍ أو قبلة على الجبين، تمحو آثار رحلة الوصول إليهم بهذا العطاء.

قد يكون العطاء احترامًا وتقديرًا وحبًّا، وليس من الضروري أن يكون عطاءً ماديًّا. 

بيئة العطاء دائمًا خصبة لمن تربى عليها دينًا وخلقًا، أما نكران العطاء فيكون من نفوسٍ مريضة أو غاضبة أو ما شابه ذلك.. العطاء يبني والنكران يدمر، ويوميات دفاترنا مزدحمة بعطاءٍ ونكران.

فهذا عاد من عمله آخر الليل حاملًا جميع طلبات أبنائه الذين سهروا في انتظاره، ليحظى كل منهم بطلبه من أبيهم الذي -بكل الحب- جلس يلتهم فرحة عينيهم لتعود إليه الحياة، قدم لزوجته نصف مبلغ مالي قد طلبته وكان آخر ما لديه، معتذرًا لها على أن يسعى في تدبير الجزء الباقي لها. نظرتها إليه أحس بها تقصيرًا منه، نظر لفرحة أبنائه التي سعد بها ثم نظر مجددًا إلى زوجته التي لم تنتبه إلى شكره أو توجيه أبنائه لتقديم الشكر لأبيهم، بل تحلت بصمت نزف به هو دمعًا أخفاه وراء ستار الابتسام.

أما هذا، فكان عقيمًا لا ينجب الأطفال، ورغم هذا لم يشعر بنقصٍ قط، بل كان يشعر بالرضا دائمًا، ولكن كلما جلس لصديقٍ له يحدثه عن نعمة الأولاد وكيف أنعم الله عليه بها، فخورًا بما رزقه الله به، غير معتبر أو منتبه لصديقه الذي ما زال باسمًا ينزف وجعًا يخفيه وراء ستار الابتسام.

وهذا نادته زوجته فجاء ملبيًا لتقدم له هدية ذكرى ميلاده لتكون هي أول المهنئين له، فشكرها على اهتمامها، وفي ذكرى ميلادها كان نسيانه خنجرًا بقلبها، لم يشعر حتى بغصتها ودمعتها التي أخفتها وراء ستار الابتسام.

وذاك الأب الذي لا يدرك لذة العلم، لم ينتبه لكلمات ابنته التي عادت من مدرستها في قمة الفرح من تفوقها والحصول على درجاتها النهائية، قتل فرحتها وقلل عزيمتها لتعود من سماء فرحتها إلى أرض واقعها الأليم، لتمحو طموحًا بداخلها باتت ترسم له الأحلام التي سرعان ما غاصت في رمال صحراء اليأس، تضحك ألمًا وتنزف دمعًا تواريه بستار الابتسام.

تشهد له زوجته بحنانه وعطفه عليها، وتبادله هي تلك المشاعر وتخاف عليه حبًّا فيه، وخاصة إذا أحس يومًا بالمرض، تصبح له أمًّا وزوجة وطبيبة وممرضة بحنان لا يوصف، وكذلك هو، إلا أنه في مرضها يصبح في حالة مزاجية سيئة متعصبًا لأتفه الأسباب، تجعلها تشعر بأنه لا يرغب بها إلا صحيحة البدن، على الرغم من أن هذا التوتر ليس إلا قلقًا وحبًّا وخوفًا على شريكة عمره، ولكنه يعبر خطأ عما بداخله، فقد يصبح اهتمام منه بكلمة بلسمًا شافيًا لألمها، ولكن رد الفعل منه يقتل ما بها من حب، ويبعد المسافات بينهما، ويزرع بداخلها وجعًا ونزيفًا تواريه وتخفيه وراء ستار الابتسام.

تلك نماذج حياتية تقتل النفس رويدًا رويدًا، قد لا نجيد التصرف في كثير من الأمور، وقد لا نحسن فنون الرد في أمور أخرى، قد تكون نوايانا نحمل بها خيرًا، ولكن معابر الحروف مغلقة فلا ينطلق منها إلا فظ.

يوجد من هو عقيم الفكر لا ينجب كلمات ولا ينتخب عباراتٍ ولا يعير اهتمامًا لأحد، تعلمنا أن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار مضادًّا له في الاتجاه، ولكن هذه القواعد الطبيعية الفيزيقية لا تنعكس على أفعالنا ومردودها، فقد يكون رد الفعل عكس المتوقع تمامًا، قد يكون رد الفعل لا يساويه في المقدار، ردود الأفعال المنتظرة تدب فينا الحياة، وتعلمنا العطاء ولو على حساب أنفسنا، وتمحو إحساسًا من التعب دام مدة جمع ولملمة هذا العطاء المقدم.

عطاؤنا لن ينقطع، وقلوبنا بالأوجاع جرحى، ووجوهنا كالنافذة عليها ستار يُخفي ما خلفه، ننزف دمًا نخفيه دائمًا وراء ستار الابتسام. 

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

وزادت روعتها بمروركم الكريم عليها
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

رائعة و فيها جذب ابداعى
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

كل الشكر والتقدير لشخصكم الجميل
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة