تتمايل أغصان الأشجار يمينًا وشمالًا وهي ترقص على طرب رياح الشرق، لتصنع نسيم الفجر المختلف عن باقي فترات النهار والليل، بدأت تستيقظ العصافير الصغيرة، تغرد لصباح جديد..
إنها تسبح ليوم جديد، لم تشرق الشمس بعد، ما زال الليل يتلاشى ببطء شديد، يحاول الفجر أن ينفض غبار الظلام الحالك عن أحداث ننتظر معانقتها بخوف وشوق مختلطين.
لقد بدأت أشعة الشمس تطلُّ بين مرايا الجبال الواسعة في استحياء عفيف، إنها اللحظة التي لا يمكن أن أفوتها مهما كان الثمن، لطالما استمتعت بهذا النسيم الغربي الشرقي، الذي يحمل عطورًا فوَّاحة من أبهى الأزهار وأزكى اللقاح، لا تسألني كثيرًا عن خرير مياه الواد الذي يصب نهاية الجانب الأيسر من قريتنا، حيث يعبر وسط جداول من الحقول المنوعة للخضروات والفواكه، هذا النهر الذي أنصت بحكمة ودقة لخريره المتدفق على طول قريتنا..
إنه يحمل رسائل أكثر مما يعتقد البشر، إنه دائمًا يأتينا بحكم وأسرار تحل ألغازًا عن أنفسنا وحياتنا.
على رصيف العلية فوق سطح المنزل العتيد، الذي يقع أسفل الهضبة الصغيرة بقريتنا الجميلة، إنه مكاني المفضَّل، إنه ملاذي الذي يعرف عني أدقَّ تفاصيل حياتي، وأعمق أسراري. لن أنهي هذا الرابط بمجرد ذهابك يا أبي..
بين أصابعي الرقيقة التي ازدادت رقة ونحافة بعد رحيلك يا أبي، ما زلت أحملُ هذه الهدية التي تعادل كنوز الدنيا مجتمعة بالنسبة إليّ.
إنها سبحتك الملونة بين الأبيض والأخضر والأسود والأحمر، تتخللها خطوط ذهبية رقيقة، لكم أعشق أن أقلبها بين أصابعي الضعيفة، وأنا أتحسس كل بلورة منها، كلما لمستها في هذا الوقت من الفجر أشعر وكأنك بجانبي، جالس في وضعية مقوسة بعباءتك البيضاء الناصعة، وقبعتك المزركشة، وأنت تضع يديك التي جمعتهما بين ركبتيك.. وتنظر عميقًا إلى الزاوية التي بين قدميك، كأنك تعيد ذكرياتك البعيدة جدًا عن زمن وجودنا، ثم تبدأ في الحديث وأنت تهز برأسك: تحدثنا عن تلك الأيام الخوالي عندما كنت ما تزال شابًا قويًّا ومندفعًا .
لقد بدأت أشعة الشمس بالتسلل أكثر، وبدأ الصبح يتضح أكثر، وما تزال سبحتك الثمينة بين يدي، كيف لي أن أتخلى عنها؟ فهي التي تصنع في داخلي قوة للتمسك بالحياة، لا أعرف كيف! لكنها تجعلني أبدو وكأن في داخلي شخصًا ما يحرك جسدي الثقيل الهزيل الوهن.
إني أخشى من فقدانها كما كنتُ أخشى من فقدانك تمامًا، أخشى أن تضيع مني حروف تقاسيم وجهك المتَعب الشاحب، أخشى أن أنسى كلماتك ويختفي صوتك من مسمعي، لكم أعشقُ نسيم الفجر الذي يجعل سبحتك تضيء الطريق الذي سأمشي فيه في كل نهار أستيقظ فيه وأجد نفسي ما زلت مضطرة للمضي في هذه الدنيا بدونك يا أبي!
يوليو 5, 2023, 4:58 م
خاطرة رائعة كلمات متناسقة متجانسة
المزيد من التألق ❤️
ارجو ان تقراي مقالاتي وتعطيني رايك فيها
تحياتي 🤗
لقد تابعت حسابك ☺️
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.