صادقت ما يقرب من سبعين امرأة وفتاة، أعمارهن ما بين العشرين والخمسين، تختلف كل واحدة عن الأخرى.. لكل واحدةٍ مذاق في حديثها وطلة وشموخ وكبرياء.
البعض منهن ذوات حدس شديد، جميعهن توددن إلى مسامعي.
جميعهن صببن العشق فوق جسدي البالي صبًا، جميعهن ذوات خلقٍ بلا نقاش أو جدال.
جميعهن جميلاتٍ بلا وصف، جميعهن أوقرهن وأحترمهن بلا مجاملة أو نفاق.
اختلافهن يزيد من جمالهن، ولكن جميعهن نعتن مشاعري ببرودها وشحها.
أما الرجال فقد صادقت عدد أيام العمر ذكورًا، منهم الرجال ومنهم أشباه الرجال.
يمر العمر سريعًا ليبقى في غربال الرجال ما يُعد على أصابع اليد الواحدة.
القليل يراني أنا، والغالب يراني أتخذ من الكبر رداء.
وحين أُجالس نفسي، أتساءل عن أسباب تلك النظرات القاسية وذاك الحكم الغيابي التعسفي، المبني على أدلة واهية واهنة على مشاعري.
أهذا حقًّا أنا؟
ألست أنا من نعتني الكثير في الصبا وإلى الآن بشاعر العشاق؟ فأين شح مشاعري؟
كما أن الكثير عهدني متواضعًا بحلة الأخلاق، فأين تكبري؟
أحقًّا أكون قد بدلتني تجاربي أم علمتني تجاربي، حتى ألوذ بالصمت مستترًا به متجملًا بوقاره؟
حتمًا قد تعلمت الكثير. تعلمت أن يكون قولي خيرًا وأن يكون صمتي خيرًا.
تعلمت العطاء أكثر ولا أنتظر ردًّا أو مقابلًا. فقد يكون رد الجميل عضًا ليد صانعه.
قد يكون هذا الزحام الدائم بداخلي طغى على كل جميل بي، حطم مشاعري، ألجم لساني، قتل آمالي، تبددت أحلامي، وماتت تعابير وجهي، سكن الوجوم مقلتيَّ، وشُيعت كلماتي لتسكن بجوار أعماقي.. فلا مرد لمن يموت ولا حياة لقلب تحتل ربوعه الأوجاع.
الدنيا قطار، كما يمر القطار بنا على محطات نتوقف بها يترجل فيها من يترجل ليشتري من يشتري ويشتهي من يشتهي.. الكل في عجل حتى ينتهي.
وحين تدوي صافرة القطار، الكل يهرول ليلحق به.
فيعود منهم إلى حيث مكانه ومقعده وتلك الأشخاص بالجوار، فيمل الطريق أو يأنس إذا أصاب الاختيار.
منهم من يلحق بعربة أخرى حيث أناس ومقعد ومكان جديد، إما يسعد وإما يندم على مقعده القديم.
منهم من أُجبر فلحق بالقطار مسرعًا فيرضى ويصبر لما أصابه، فهو لا يملك ثمن تذكرة أخرى وتكاليف رحلة جديدة.
منهم من لم يلحق بقطاره فيبقى مكانه منتظرًا لما هو جديد، مستسلمًا لمصيره لما هو آت.. هل سيأتي قطار آخر أم سيبقى هنا شاردًا بالفكر لما هو بخلده؟
هذا القطار قد يأتي غيره وإن تأخر، وقد يأتي آخر للرجوع فيعود من يعود.
أما قطار العمر طريق واحد بنهاية حتمية.. يمر بنا على محطات دون توقف، وبكل محطة عمرية نتعلم منها الكثير والكثير. نشتري من يشترينا، نهمل بذاكرتنا من يبيع، نشتهي منها أحلامًا لا نملك منها إلا سرابًا.
محطات تليها أخرى.. نشتهي منها الكثير بلا منال، وتدهسنا عجلات قطارنا دهسًا بخيبة الآمال.
صببنا بوعاء النسيان أوجاعنا وآمالنا حتى فاض.. وأصبح زحام النسيان بداخلنا صراعًا.
كيف تستجيب الذاكرة للنسيان؟ لم تستطع منذ سنوات.. فهناك آلام لا تُنسى أتذكرها مع كل صفعة على وجهي. فاض وعاء النسيان وأصبح زحامه يرهقني في هذا السن البغيض فكان الصمت ملاذي.
يظن البعض شيب الرأس صافرة القطار، فكم رأينا من رحل وليدًا وصبيًا وشابًا. رأينا الجميل والقبيح، رأينا الفاجر والخلوق.. الكل ترجل من القطار طواعية بلا مقاومة وبلا سابق إنذار.
قطارنا بلا صافرة إنذار. بداخلنا صفير لا ينقطع، جعل حديثنا صمتًا، وبداخلنا زحام.
قاومتُ مرارًا هذا الزحام، هذا الشجار الداخلي، فهزمني.
أجبرت نفسي على الصمت حين فشلت، فشُحت مشاعري وازداد زحام النسيان بداخلي.
صراع.. الكل يتسابق بداخلي كالأسراب على باب النسيان بذاكرتي، ولكنني لم أستطع إطلاق ذاكرتي، فذاكرة النسيان بابها لن يُفتح مهما زاد زحامها.
كلما سكبنا كؤوسنا علقت بها قطرات لم تزل تتشبث بالكأس. هكذا أعماقنا.
أعماقنا كالكأس ينضح بما فيه.. كلما حاولنا وأطلقنا ما به، يبقى به زحام من النسيان متشبث لا ينطلق.
ربما إذا انطلق كان كالسهم المسموم، أصاب من أصاب وقتل من قتل.
أبحث فى السفر عن وجه الزمان
لعلى أجد حبا ضاع فى طيات
الزمان وحين أصل لآ أجد سوى
القضبان وقسوة الأيام؟
أبدعت يا سفير الاحساس ❤🌹
سفير الأحساس . وسام جديد على صدري أعتز به .شكرا لهذا الشرف العظيم منكم .
ليتني لها
بل انت لها يا سفير الأحساس
كل الاحترام والتقدير لشخصكم الجميل
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.