في لحظة من لحظات الليل الهادئ، حيث تتساقط الثلوج من السماء وتغطي الأرض ببياضها الصامت، أقف بين نافذتي الصغيرة والمساحة البيضاء الممتدة أمامي، شاعرةً أنني غريبة في هذا المكان.
ليس لي هنا مكانٌ أنتمي إليه؛ فلا دفء في قلب هذا الشتاء البارد، ولا راحة في هذا البيت الخشبي المهدم. الحياة هنا تمثل جمودًا قاسيًا، شيءٌ ينمو فيه الإنسان دون أن يشعر به، وكأن الأرض نفسها قد تخلت عن الحلم.
في هذا الجو الكئيب، الذي يُصاحبني كل ليلة، أجد نفسي تتساءل: هل أستحق هذا المكان؟ هل يمكن أن يكون هذا هو المكان الذي أنتمي إليه؟ كل يوم أعيش فيه، أكتشف أنني لست مجرد شخصٍ يمر بحياته، بل أنا كائنٌ ضائع في عالمٍ لا يتسع لأحلامه.
في هذه القرية، لا شيء يتغير. الحياة تتكرر على الوتيرة نفسها: شتاء بارد، وصيف حار، وشتاء آخر يعاودنا. لا حركة، لا طموح، فقط الهدوء الذي يقتل كل فكرة في الرأس. ولكني لا أستطيع أن أسمع صوت الذئاب التي تكرِّر زياراتها لي كل ليلة، ربما لأنني لا أرغب في الاستماع إليها.
ليس لديَّ الفضول لذلك، فكل شيء هنا يبدو وكأنه سيختفي في لحظة. أظل أكرر لنفسي أنني سأغادر قريبًا. لا بد لي من الرحيل؛ فلا مكان لي هنا.
أظل في حيرة دائمة: هل أستطيع فعلًا أن أغادر؟ هل يظل هذا المكان في ذاكرتي أم أنه سيختفي بمجرد أن أرحل؟ حصاني هو الشيء الوحيد الذي أحببته هنا، يظل يرافقني كل يوم. أحب هذا الكائن الطيب؛ لأنه يمثل لي رمزًا للحرية، وأتساءل: هل يرغب هو الآخر في الرحيل معي؟
لا أستطيع أن أجيب، ولكنني أراه يتطلع إلى ذلك الأفق البعيد الذي يقودنا إلى عالمٍ مختلف. قد يكون هذا الأفق هو المكان الذي سأجد فيه نفسي، أو ربما هو مجرد حلم.
وفي كل مرة أعود فيها إلى البيت الخشبي، أجد أبي جالسًا على كرسيه المتحرك، ينظر إلى زاويةٍ فارغة، وكأن روحه قد غادرت جسده. أمي تقترب منه، وتساعده في تناول غدائه، ثم تلتفت إليَّ بابتسامة صامتة تدعوني للجلوس إلى المائدة. وهنا، بين طبقٍ وآخر، أجد نفسي غارقة في صمت قاتل، لا شيء يعكر هذا السكون سوى تساؤلاتي الداخلية: هل أظل هنا إلى الأبد؟ هل هذا هو مصيري؟
ثم تقتحم أمي صمتي قائلة: "هل ما زلت تفكر في الرحيل؟ لم تعد تخبرني بذلك منذ مدة".
أجيبها، وقد شعرت أنني أخشى رد فعلها: "نعم، سأحمل حقائبي وأغادر في نهاية هذا الشهر".
ترتفع نبرة صوتها: "أهذا هو قرارك؟ لم يعد لديك ما تقوله لي؟ لماذا تفعل بي هذا؟".
أحاول أن أقطع حديثها بهدوء، وأقول: "لقد اخترت حياتي، ولن أقبل أن تمنعيني من اختيار طريقي. كما أنك اخترت حياتك، فقد حان دوري الآن".
ثم تدمع عيناها، ولكني لا أستطيع أن أسمح لنفسي بالبقاء هنا. لا يمكنني أن أعيش في هذه القرية النائية التي لا توفر لي سوى الفراغ. لا أستطيع أن أقبل حياةً لا أؤمن بها. الحياة ليست مجرد وجود، بل هي اختيار الطريق الذي يتناسب مع طموحي. أريد أن أكتشف نفسي، وأن أعيش الحياة التي أؤمن بها، بعيدًا عن القيود التي تحاصرني هنا.
الرحيل ليس مجرد قرارٍ للهروب من الواقع، بل هو خطوة نحو الذات.
حملت حقائبي، وعرفت أن الرحيل هو الحل الوحيد لي. على الرغْم من الحزن الذي يعتصر قلبي، لكنني أدركت أن الحياة تضع أمامنا اختيارات لا بد أن نختار منها ما نؤمن به. الحياة تضع أمامنا قرارات صعبة، ولكن في النهاية يجب أن نختار الطريق الذي يتناسب مع أحلامنا. تركت خلفي كل ما يربطني بهذا المكان، لأنني أدركت أنني لا أستطيع أن أعيش في ظل حياةٍ لا أؤمن بها.
اخترت أن أكون أنا، دون أن أعيش في ظل توقعات الآخرين. الرحيل هو ما سيساعدني في أن أجد نفسي، ولو كان يعني أنني سأغادر دون أن أعود. الحياة تضعنا أمام مَفرِقِ طرق، ونحن مَن نقرر أيها نسلك. الرحيل، في نظري، هو بداية جديدة، هي بداية لتحقيق الذات، وأخيرًا اكتشاف الحياة التي طالما حلمت بها.
في النهاية، فالحياة سلسلة من الاختيارات. علينا أن نتعلم أن نختار بأنفسنا، مهما كانت التحديات التي قد نواجهها. الرحيل قد يكون قاسيًا، لكنه ضروري أحيانًا لكي نجد أنفسنا ونحقق ما نريد. لا يجب أن نبقى في أماكن لا تنتمي إلينا، بل يجب أن نسعى وراء ما يحقق لنا السلام الداخلي والراحة النفسية، مهما تطلب الأمر من تضحية
رائعة
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.