خاطرة «رحلة التصالح مع الماضي».. خواطر وجدانية

لطالما كانت العودة إلى الجذور موضوعًا شائكًا، فالماضي يظل في كثير من الأحيان أكثر من مجرد ذكرى؛ إنه عبء يحمل في طياته لحظات قد تكون صعبة، وقد تكون محطمة. لكن العودة إلى المكان الذي وُلدنا فيه لا تعني فقط العودة إلى المكان ذاته، بل إلى اللحظات التي كونت هويتنا، إلى الأشخاص الذين كانوا جزءًا من ماضينا، وإلى أنفسنا التي تغيرت بمرور الوقت.

كنت قد قررت العودة إلى الحي الذي وُلدت فيه، بعد سنوات من الغياب، محملًا بذكريات لم تُمحَ، وألمٍ من ماضٍ مضى، وأنا أبحث عن نفسي التي تاهت بين الهموم والانشغالات. كانت السيارة تنساب على الطرقات المألوفة، وحين كنت أنظر من نافذتها، كانت الذكريات تتسلل إلى عقلي كصور مشوشة، ولكنها تحمل في طياتها كثيرًا من الشوق والحنين. كان قلبي ينبض بالقلق والتساؤلات: هل ما زال هذا المكان كما هو؟ هل يتذكرني الناس كما كنت، أم أن الزمن قد غير كل شيء؟

عندما وصلت إلى البيت القديم، كان كل شيء كما تركته، وكأن الزمن قد توقف في تلك اللحظة. الباب الخشبي ذاته، النوافذ التي كانت تطل على الحديقة التي زرعتها أمي بكل حب، ورائحة العنبر التي كانت تعبق في الأرجاء. ولكنني، وأنا أواجه هذا المكان، شعرت بشيء غريب؛ شعرت أنني شخص آخر. ربما كانت الحياة قد حملتني بعيدًا عن هذا المكان، لكنني الآن عدت إليه، وأنا أرتدي قناعًا ممتلئًا بالتجاعيد والندوب التي خلفتها سنوات من الفقد والندم.

اللحظة التي فتحت فيها الباب أمامي كانت ممتلئة بالتوتر، الشاب الذي قابلني كان يحمل نظرات غريبة، وكان يتساءل عن هويتي. وعندما أخبرته من أكون، لم يكن يعرفني كما كان الحال في الماضي. توفي والدي وجدي، وأصبح المكان كما لو أنه خالٍ من ذكرياته القديمة. كنت أعلم، في تلك اللحظة، أن الزمن قد تغير، وأن ما كنت أظن أنه ثابت هو في الواقع متحرك ومرتبط بتجارب الآخرين. كان هذا بمنزلة اعتراف بأن الماضي لا يعود، وأننا نحن من نخلق ملامح المستقبل.

لم تكن العودة إلى الغرفة القديمة أمرًا سهلًا، فقد كانت ممتلئة بتفاصيل لم تتغير، وكأنها تحمل كل لحظة مضت وكل حلم ضاع. ولكن ما وجدته في تلك الغرفة لم يكن مجرد ذكريات، بل كان بداية جديدة. ذلك المكان الذي كان يومًا ممتلئًا بالأحلام والأصوات البريئة، أصبح الآن شاهدًا على تغيرات الزمن وندوب الماضي.

ومع مرور الوقت، بدأت العائلة الجديدة تتعرف على ملامحي الجديدة، وبدأت أرى في وجوههم مشاعر غريبة. كان الأطفال يهمسون عني، وزوجة ابن أخي كانت تنظر إليَّ بحذر، لكن في عمق هذا الحذر كان هناك شيء من الترحاب. كنت أشعر بشيء غريب في داخلي، ولكن ذلك الشيء كان أيضًا بداية لتغيير ما. ربما لم أعد في مكاني الذي كنت فيه، لكنني كنت أبدأ في إعادة بناء مكان لي في هذا العالم.

ومع مرور الأيام، بدأت أفتح قلبي تدريجيًّا. بدأت أرى نفسي في مرآة جديدة، وأتعلم كيف أقبل ما حدث وأعيش فيه لا حوله فقط. كان التغيير بطيئًا، لكنه كان مستمرًّا. كنت أكتشف أنني لا أحتاج العودة إلى الماضي لأجد نفسي؛ بل إنني أحتاج إلى استحضار الماضي بسلام؛ لأنني قد لا أستطيع أن أغيره، لكنني أستطيع أن أختار كيف أعيش فيه.

وفي نهاية المطاف، أدركت أن العودة إلى الماضي ليست مجرد استعادة للأماكن والأشخاص، بل هي رحلة نحو الذات. كانت العودة تعني لي إعادة اكتشاف نفسي، والتصالح مع كل ما فات. فالحياة لا تتوقف على ما مضى، بل على كيف نستطيع أن نعيش في الحاضر ونبني المستقبل.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

رائعة صديقتي ريماس
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

رائعة عزيزتي وكلمات عذبة ومشاعر جدا صادقة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة