في ليلةٍ لا تُشبه الليالي، كانت السماء تهبط تدريجيًّا كأنها تتثاقل من حمل السحب. رأيتُ النجوم تتوارى خجلًا خلف وشاح الغيم، وكأنها تخشى أن تكون شاهدة على ما هو آتٍ. كان كل شيء صامتًا، حتى الرياح التي اعتادت أن تثرثر مع الأشجار التزمت الصمت هذه المرة.
وحين بدأت قطرات المطر الأولى، شعرتُ وكأن السماء تبوح بأسرارها الدفينة. كل قطرة حملت معها حكاية؛ واحدة عن حُبٍّ لم يكتمل، وأخرى عن حلمٍ تبعثر في متاهات الحياة، وثالثة عن قلبٍ أُنهك من الانتظار. كانت تلك القطرات أشبه برسائل مختومة، تُرسلها السماء إلى الأرض في محاولة يائسة للبوح.
وقفتُ هناك، وسط الشارع الخالي، أراقب السماء وهي تبكي. لم أمد يدي لاحتضان قطراتها، فبعض الأحزان تحتاج أن تسير طريقها دون عائق. شعرتُ أنها ليست مجرد قطرات ماء، بل كانت انفجارًا صغيرًا للحياة ذاتها. ووسط ذلك المطر المنهمر، أدركتُ شيئًا عميقًا: أن كلَّ الأحزان التي تسقط من السماء تجد طريقها دائمًا إلى الزرع، لتنبت أزهارًا في ربيعٍ قادم.
وحين استمر انهمار المطر، بدأ الصوت الخافت يتحول إلى سيمفونية، كأن السماء تعزف لحنها الأخير قبل أن تستكين. كان الشارع أشبه بلوحة مائية تُرسم في اللحظة ذاتها، حيث الأضواء الخافتة تتراقص على برك الماء، والأشجار ترتجف وكأنها تحيي هذا العرض السماوي.
في تلك اللحظة، شعرت أنني لست مجرد مراقب؛ كنت جزءًا من المشهد، جزءًا من هذا البوح الذي يتردد بين السماء والأرض. فكرتُ: هل كانت السماء تبكي لأجلنا، أم أننا نحن من جعلناها تبكي؟ هل أحزاننا الصغيرة تتراكم هناك، لتتحول إلى غيوم ثقيلة لا تجد سبيلًا سوى الانفجار؟
ذكريات متفرقة بدأت تتسلل إلى ذهني مع كل قطرة ترتطم بالأرض. وجهٌ لم أعد أراه، صوتٌ انطفأ في زحام الحياة، أحلامٌ كنت أعتقد أنها لا تموت لكنها ذابت كأنها ملحٌ في بحر الوقت. المطر كشف لي أنني لست وحدي، فكل ما حولي يحمل قصة مشابهة؛ كل زهرة وكل حجر وكل شارع يحتفظ بجزء من الحكاية.
ومع كل هذا التدفق، شعرت بنوعٍ من الطهارة، كأن الحزن يغسل شيئًا داخلي. تذكرتُ أن السماء لا تبكي عبثًا، فهي تمنحنا فرصة جديدة، تملأ الأرض بالماء لتعيد الحياة إلى ما كان يظنه الجميع ميتًا.
حين بدأ المطر يخفُّ تدريجيًّا، بدا المشهد وكأن السماء تنفست الصعداء. نظرت إلى الأفق الذي بدأ ينشق عن خيوط نور خافتة، وعرفتُ أن النهاية ليست إلا بداية أخرى. غادرتُ الشارع وأنا أشعر أنني تركت هناك جزءًا من حزني، وربما حملت السماء الباقي عنها.
كم هى جميلة ورائعة كلماتك
إبداع
رائع ، تشبيهات جميلة جدا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.