(كما يقال الأذن تعشق قبل العين أحيانًا) صباح كل يوم أستبق أفراد عائلتي، أنهض في الصباح الباكر لأبدأ يومي على صوت مذياع صغير تمتلكه أمي بأصوات أمهر المذيعين الذين عشقتهم من الطفولة حينما كان لا يتجاوز عمري العاشرة.
لتلك الأصوات والبرامج ذكرى خالدة ومترسخة في ذاكرتي على الرغم من كبر مسافة الزمن، عشقتها، أحببتها، وبدأ حلم كبير يتربع على عرش قلبي.
حلم لم يغادر مخيلتي من ذلك الحين، أصبحت أستمع وأقلد ذلك الأداء العملاق، كنت في أوقات فراغي أذهب بعيدة عن الأنظار أرتب مكانًا عاليًا، أصعدُ مُمسِكةً ملعقة مطبخنا الخشبية، ثم أبدأ بترتيل كلمات لم أكن أفهم معناها، فالمهم فقط أن أتقمص شخصيات إذاعية ارتسمت في مخيلتي.
كبُرت، وكبُر ذلك الحُلم الجميل مع تذكير نفسي دائمًا بأهمية الوصول إليه والسعي إلى تحقيقهُ.
أكملت دراستي الابتدائية في مدرستي المتواضعة، لم تكن لها الإمكانية لفتح وإكمال المراحل التالية، حينها بدأت المعاناة الحقيقية مع شغفي بالعلم، فقد كانت قريتي تبعد مسافة كبيرة عن القرى التي توجد بها المدارس ذات المراحل المتقدمة، حينها أصررت على الذهاب وإكمال تعليمي على الرغم من العوائق والصعوبات التي واجهتني بسبب بعد المسافة وقناعة مجتمعي بأن ما لدي من التعليم يكفيني، ولا حاجة لي بأكثر منه، إلا إن إصراري وشغفي أقنعهم بذلك.
كنت متفوقة دائمًا في دراستي، ومن أجل العلم والحلم كابدتُ مرارة التعب وذهابي في حر شمس وصعود الجبال منتصف النهار ووحدتي، حينها كنت الفتاة الوحيدة في قريتي التي خالفت العادات والتقاليد وأكملت تعليمها.
كافحتُ بشغف وحب وإصرار حتى أنهيت مرحلتي الأخيرة الثانوية، صحيح لم أحقق المعدل المراهن عليه، لكن حينها كان مرضيًا مقارنة بنسب المعدلات لتلك السنة الدراسية.
بعدها بدأت معاناتي الكبرى، فقد زادت العوائق؛ لأني أعيش في ريف؛ لذا كان حلم إكمال مسيرتي الجامعية مُحال، ولا توجد أي ثغرة أملُ للوصول، وعلى الرغم ذلك لا أزال أمارس تلك المهارة؛ مهارة استماع إلى المذياع وقنوات التلفزيون برامجهما ونشرات الأخبار متأملة حركات النطق الإعلاميين وأداءهم شغوفة متعلقة بالوصول الحقيقي إلى تحقيق ما أريدُ.
ومن محاولات انتحار فاشلة إلى عزلة نفسية وحالة اكتئاب حتى قيل عني إني مريضة نفسية تحتاج إلى شيخ يداويها.
لكن عودة والدي من غربته كانت سبب انفراج كربتي وحزني.
لم يستحمل والدي حالتي التي كنت عليها، فأصدر قرار الموافقة على سفري وتحقيق مطلبي.
نعم، واجهت كثيرًا من الصعاب والعرقلات والممانعات، لكنه ساعدني على إكمال مسيرتي معه وأوصلني إلى ما أريد.
كلية الإعلام، يا له من عنوان يحمل كل معاني الهيبة، توقفت متأملة ذلك العنوان برُهة، وفي داخلي مشاعر جياشة عظيمة، فلم أستوعب موقفي، وعجزت عن وصف شعوري، لم أكن أستطيع التعبير عنه حتى كدت أفقد الوعي حينها لهول ما أنا به.
ممتنة لله وأشكره على كل لحظة لما حققه لي، فقد أصبحت طالبة في كلية الإعلام، مجتازة امتحانات المفاضلة والقبول بجدارة، ثم بدأت مسيرتي الجميلة في ذلك الصرح العظيم كما كنت أتخيله.
تمسكت بذلك الحماس والشغف وثابرت وأصررت حتى أثبتُّ لنفسي أني سأكون كما حلمت.
وكان المدح والشهادات يزيدانني حماسًا، يجعلاني أثق أكثر وأكثر، وأعتز بما أنا فيه.
نثرتُ ما لدي من مواهب وإبداعات وأفكار كانت تسُر الجميع وتزيدني مكانة وعلوًا أكبر نحو حلمي.
لن أنسى كلمات المدح من معلميّ وزملائي: أنت إنسانة طموحة شغوفة موهوبة، وسيكون لك مستقبل زاهر وعظيم.
لكن أين أنا الآن من كل ذلك، لم يكتمل حُلمي، ولم أصل إليه.
ها أنا ذا يا أستاذي الفاضل لا أصبحتُ عظيمة، ولا ذات شأن رفيع كما كنت تقول لي.
لمن أشكو حزني وانكساري؟ وعلى من أعتبُ وأطرح لومي؟ إلى من أشتكي ويسمع شكواي؟
شكواي التي لا أستطيع شرح تفاصيلها وتسطيرها، أسباب تحطم حلمي واندثاره مع أدراج الرياح.
هل أعتبُ على مجتمع ظالم في حكمه أم على عادات وتقاليد مسمومةٍ بقيودها أم على أهل أنانيين بحرصِهمِ المبالغ فيه أم على أنانية ذكورية قاسية؟
أأعتبُ على دولة ظالمة في توزيع الحقوق والمجالاتُ على فئات محددة أم أعتبُ على مؤسسات وشركات لا تقبل إلا ذوي الجاه والسلطة والمقام، فتحتقر الأفكار وتنظر فقط إلى الوساطات وإن كانوا لا يملكون العلم والكفاءة اللازمين؟
أأعتب على مجتمع فاسد خالٍ من الرجولة والحمية والأخلاق، مجتمع اعتمد قوانين فاجرةً كافرةً ظالمةً تحدد وتطبق شروطًا ومعايير فاسدة تعتمد الشكل والخروج عن القيم الدينية شرطًا للقبول دون النظر إلى المعايير الأساسية الضرورية كالمؤهلات والخبرات والحاجة.
لكن إن طال الانتظار سنصل، وعند الله لا تنسى الأمنيات...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.