عشت أخيرًا موقفًا أنعش روحي، دبت أحاسيسه في أضلعي، أثار الشجن في نفسي، صحح مفاهيمي، وما درجت عليه مثل الكثيرين من أهل زماني.
صدفة ذات لقاء في رحاب قاعة انتظار بعيادة طبيب متخصص في الأمراض الجلدية بالمدينة، جلست بجانبي امرأة عجوز وقور، ألقت التحية، وبعد برهة، بادرتني بالحديث: اسمح لي يا ولدي، لا تقل لي أنك جئت عند الطبيب بسبب تساقط شعر راسك، فنساء هذا الزمان لا يهمهن وسامة الرجل، بقدر ما تهمهن نقوده...
عجبت من أمرها، دون مقدمات اقتحمتني، فما كان لي من بد إلا أن تقبلت الأمر، لكونها سيدة بشوشة منفتحة في سن أمي، استرسلنا في الكلام، فاجبتها موضحًا: سبب مجيئي معاناتي من حساسية موسمية كعادتي كل عام، أما انحسار شعر رأسي، فتلك ليست عقدتي، وكل النساء في حياتي ألفنني كما أنا: أمي، أختي، زميلاتي في العمل...
سألتني متفاجئة: ألست متزوجًا ؟! قلت لها: ليس بعد، لن أتزوج إلا من يخفق لها قلبي، ويتشبع بها عقلي.
فعقبت متسائلة: هل تنتظر أن يطرق الحب باب قلبك؟ قلت: بلى.
نطقت وفي منطوقها اسلوب عتاب: أنتم شباب هذه الأيام أرواحكم معلقة، مشاعركم مشتتة، دنستم طهارة الحب بطيشكم، ما وعيتم كنهه، ولا ذقتم طعمه، ولا كشفتم سره، استرخصتموه فشقيتم...
سألتها، عذرًا سيدتي، ما الحب في نظرك ؟
تنهدت قائلة: الحب يعاش ولا يعرف، عشناه وتربينا عليه، حب في أبهى صوره. أما حبكم قرين المصلحة، رهين حسابات مسبقة...
ومضى الحديث مسترسلاً:
- ما سر حب زمانكم؟
- إنه سر سماوي، نراه بأرواحنا، وندمن عليه إلى أن نشعر به كنبض يدق بدواخلنا، يضيء شموع حياتنا من اللقاء إلى اللحد.
- أراك تجيبين بأريحية رغم ما عهد عنكن من الاستحياء من كلمة: حب؟
- وأنتم على العكس، تجاهرون به استخفافًا، وتنقضون ميثاقه في أول الطريق!
- إذن، كيف استطعتن أن تبنين جسورًا أنقى من الحب؟
- لا يستقيم الحب إلا على أسس ثلاث: الوفاء، الاهتمام، والاحترام. بتضافر هذه العناصر، يحيا الحب ويستمر، وينتعش الشوق من أزاهر الوجد المفعم برائحة الحنين..
- تحنين، تحنين سيدتي إلى الماضي، لا شك أنك عشت قصة حب فريدة.
- آه من كمدي.. شوقي إلى سندي، صورة وداعه الأخير تحرق قلبي، سيبقى دومًا داخلي ما حييت، إلى أن يفنى عمري. معه تعلمت أبجديات الحب، ومبادئ الإخلاص. هو عطر الورد الندي، ونبع الحب الأبدي، يروي أحرفي، تاج يزين هامتي، يتربع في مهجتي، يملأ دنياي بفيض سعادة لا تنتهي...
- افحمتني ببلاغتك وصدق مشاعرك، شكرًا سيدتي..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.