تسارع الزمن ومرت السنون
ردح طويل لم تطأ فيه قدماي هذا المكان
حاجتي لبعض الأوراق هي ما قد أتى بي إلى هنا
اختلط الزمان بالمكان وتداخلت الرؤى
أولا تنتهي أبدًا الذكريات؟
ما إن خطوت أولى خطواتي على الإفريز الملاصق للسور
حتى انبلجت الذكرى حية من جديد
سرت يومًا ما ها هنا
مسرعًا شاعرًا بقليل من الراحة كنت أمشي
ساعتها كنت أظن أنني قد نسيت
لكني رأيتها فتبدل الحال
ظننت انقضاء الأمر وزوال الحمل
ولكن هيهات هيهات
كم مر من السنين؟ ربما 25 تزيد أو تقل
صورتها أراها عالقة في الهواء لا تنمحي
أراها تنظر إلي تقول عيناها: هل حقًّا نسيت؟
أبدًا
لم أنسَ يومًا.. مهما حاولت لا أستطيع
أطرق فأرى بعض آثار أقدامي لم تنمحِ على هذا الرصيف
هنا في هذا المكان قرب المدخل كان ما كان
أزفر زفرة وأمضي
يا لمرِّ الذكريات
أسير الهوينى
ليتني كنت أمشي هذه المشية حينها لربما تبدل الحال
أجول البصر
تغير المكان
ولجت من الباب الجانبي المقابل للحديقة الشهيرة
الباب نفسه الذي كنت ألجه دائمًا طيلة هاتيك الصباحات
شعرت بغربتي
اليوم أنا هنا غريب
لم يعد المكان مكاني بعد انقضاء الزمان
ما زلت أذكر كل شيء وكأنه الآن
ولكني اليوم ها هنا مجرد زائر غريب
لست الفتي الطويل الممشوق الذي قد كان
لم تعد خطاي قوية مسرعة كما كانت
التقت عينانا هاهنا بعد أن ظننت قدرتي على النسيان
تركتها يومها خلفي بقلب خافق ومرارة بالفم تحرق الجوف الحزين
من ورائي رأيتها تقول امضِ إلى حيث شئت ولا تعد
أسرع الخطى وكأنني أعاود الهرب من جديد
لم أعد كما كنت ولم يعد أي شيء كما كان
لطالما رأيتها بعين قلبي
لطالما كنت أتشمم الهواء فأعرف في أي الاتجاهات تكون
أنظر إلى السماء فأهتدي إليها
دائمًا ما أعرف أين اتجاه البحر إذا ما نظرت إلى السماء
وكانت هي بحري الذي قد غرقت فيه
أصيغ السمع فأدرك صوتها بين الجموع
أوقف الزمن حين أراها
ولكن اليوم ها هنا ما من أثر يشير ولا صوت أسمعه ولا رائحة للهواء
مر الزمن فلا يتوقف أو يعود للوراء
هنا إلى يسار الباب كانت ولا تزال.. جلسة الحارس وكشكه إلى اليمين
مصد الباب المعدني لا يزال في مكانه.. تآكل قليلًا وقد فقد البريق
أذكر تعثري فيه يومها من فرط الاضطراب
أبدًا لن يكون النسيان سهل المنال
أرمق الشارع الطويل وأكمل المسير
لكأنما كنت أيامها أتعجل الزمن.. اعتادت خطاي السير فيه طويلة مسرعة
واليوم أسير الهويني لعلي أرجع الزمن إلى الوراء
ها هو سور الحديقة الأخرى ممتد إلى اليسار
أجتاز المبنى الأول إلى اليمين
أصل إلى المتسع الذي كنت أمرح فيه مع الزملاء
النخلة الملكية التي كنت أركن إليها لا تزال شامخة
أشير أليها أن مرحبًا ألا تتذكرين؟ فلا تجيب
ها هي الفرجة الصغيرة بين المبنيين تكشف عن السلم الحديدي على مد البصر من ورائها
السلم الحديدي الذي كنت أنتظر قدومها عليه جالسًا على الدرابزين لم يعد له وجود
لكم أحببت هذا السلم المعدني
أراها تصعد الدرج لامعة عيناها حين تراني
يدرك صاحبي وجودها فيستدير
يبتسم فيراها تبتسم
تلتقي عينانا من فوق أكتافه فتطرق وتسرع الخطى صاعدة في ارتباك
يخبرني بأن أجمل فتاة لا يمكن أن تصمد أمام النظرات الواثقة لفتى
يا لك من غر مفتون أو ظننتها تبتسم لك؟
أبتسم له وتأخذني النشوة
اختفى سلمي الحبيب فأدير البصر
ها هنا المكتبة التي اعتدت الجلوس أمامها حين أتخلف عن الحضور
أراني أنظر إليها تقف مع أقرانها تقول عيناها هل إلى مرد من سبيل؟
وأراني أشيح بوجهي أن لا
ليتني ما أشحت
يطل زمان آخر من بين أزمان المكان
يرتد بصري إلى المقعد الإسمنتي.. فأراني جالسًا عليه مع زميل
وأراها تمضي منتصبة القامة واثقة الخطوة مرفوعة الهامة
ما عاد إليها أبدًا سبيل
أكمل المسير
السلم الحجري المفضي إلى العيادة إلى اليمين بدرجاته الأربع
ها هو قد نسي جلستي عليه وقد اعتراني الأسى
تجاهلتني لمرتها الأولى هنا حين مرت بي جالسًا عليه
اعتلاني ساعتها غم كبير
أو لم يكن هذا ما تريد؟
أبدًا لم يكن أبدًا ما أريد
فأنظر إلى يسار الزمان
أراها تجلس مع صاحبها على المقعد الحجري بجانب السور فتنتابني غصة
مريرة هي الذكريات
لكأن ذاكرة المكان لا علاقة لها بذاكرة الزمان
لا تتابع ولا ترتيب
أتجاوز المبنى الثاني لأرى الجسر بين المبنيين
الجسر الذي حدثتني نفسي كثيرًا أن أقفز منه إلى الأرض الإسفلتية الصلبة
لكم فعلتها كثيرًا ولكن على أراضٍ رخوة من ارتفاعات أقل من هذا ليس بكثير
رأيتها تسير أسفله فهممت أن أقفز إليها ثم أحجمت
أرتد إلى حاضري فأتذكر الأوراق
أرجئها إلى حين
وأكمل المسير
لا أجد النخلة الملكية الثانية إلى اليمين
أذكر مرورنا متقابلين يومًا بجوارها
التقت نظرتنا للمرة الأولى
تلكم النظرة التي معها أدركت تبدل الحال
أمد البصر إلى آخر الطريق فأراني أقفز الدرجات الثلاث
أتذكر قفزتي الهائلة في الهواء منتشيًا خارجًا من صالة الألعاب
لكأنما ممارسة الألعاب كانت باعثي على النشوة
يا لقفزتي في الهواء
كنت دائمًا أفعلها منذ كنت طفلًا صغيرًا دون الخامسة
لكم أحببت قفز درجات سلم بيت جدتي العتيق
إلى اليسار من اتجاه المسجد أراها مع صاحبتها قد اجتازت الطريق
يقفز إليها قلبي وأنا معلق في الهواء
لو أنها نظرت إلى الوراء قليلًا لرأتني وكأنما أهبط من السماء
معلقًا في الهواء أتأمل تفاصيلها.. وقد أوقفت الزمان
أعود لزمني فأنظر إلى أقصى اليمين وأزفر زفرة حارة متحسرة
انهدم مدرجنا الأول ولم يعد المكان هو المكان
المدرج الذي أحفظ أماكنها فيه كلها
ما إن أدخله حتى أشعر بأنفاسها
أسمع صوتها تقول لصاحبتها ها هو قد جاء
أمد إليها بصري فتلتقي عينانا على طول المدى
أينما ستكونين سأعرف أين أنتِ
سأتشمم رائحتك في الهواء
سأميز صوتك بين الجموع
سأرى بريق عينيك لا يماثله بريق
أتذكر محاولتها الأولى للحديث
وقفت أمامي هي وصاحبة لها أخرى تقلبان في الأوراق
من يرانا يظن ثلاثتنا نقف سويًّا
توقف الزمان وسكنت الأصوات
اختفت كل الموجودات إلا هي
جمال سمرقندي
أتأمل عينيها الواسعتين.. يأسرني سوادها اللماع
أنفها الدقيق
ثغرها الباسم
بشرتها الوردية
وخدها الأسيل
شعر فاحم شديد السواد ينسدل إلى الكتفين ليعود مرة أخرى إلى أعلى
تقفز صورتها عائدة أمامي من جديد
فأسمع الصوت الذي دائمًا ما مزق قلبي حين يشدو
ولا عمري نسيت الليل
لم أنسَ أبدًا في يوم من أيام عمري
أصعد الدرجات وأتجاوز صالة الألعاب إلى مكاني القصيِّ
اعتدت الانفراد بنفسي هناك
لا أجده.. قد انمحى مع ما قد انمحى
لطالما كنت أعرج إليه حين الفراغ
هناك أشارت إلى صاحبتها الأولى تقول لها ها هو هناك
أدرك أن نظرتنا الأولى لم تكن الأخيرة
وإن تبدل الحال لن يكون ظنًّا.. بل يقين
تغير الزمان وتغير المكان فانمحى أثري
وانمحى أثرها
لا أرى خطواتي على أرض الطريق.. طواها النسيان
ما عاد المكان هنا هو المكان
ضاعت ذاكرته وإن لم تضع معها ذاكرة الزمان
أنتهي من ذكرياتي، وينتهي بي المطاف
أستدير عائدًا برأس مطرق أسير
في الحلق غصة ومرارة حارقة
أستخرج الأوراق التي لم تعد لها قيمة
أستلمها وأعود
أخرج من الباب
أستقل سيارتي
أنظر إلى الطريق
أتنهد
وأدير السيارة وأمضي
لإن كنت يومًا أستطيع أن أوقف الزمن
فإنني أبدًا لا أستطيع أن أعيده إلى الوراء
ليتني ما جئت
ولكن لا مناص
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.