عندما يهمس في آذان المساء ويعكس وجله في وجه المغيب ويكون المضيف لحواس الربيع، اعلموا أنه الياسمين الذي قرر أن يتفتح قبل الصيف مستأذنًا من بقية الزهور مسرعًا في القدوم، فالجو مشرع فقط له وفي كل الفصول.
وسيبقى الأبيض النقي الناعم الصغير الجميل كطفل في ثورة زجوا فيه بسجن للتعذيب وحطم القضبان وخرج بروحه ليفوح عطر شهادة يتنشقها أهل الأرض وتعشقها قلوب الثوار ولو بسكون.
ولا نريد ولا نرجو إلا مساحة كلها هدوء وزمن للرجوع إلى حوار ودكاكين وشرفات وأناس وبساطة حياة وعزة الشباب وآباء الرجال .
إلى هناك حيث المرأة هي البنوك وهي الجامعات وهي المعلمة وهي الطباخة والفنانة والمربية والعملاقة في إنتاجها وإدارتها وخياراتها
كان صندوق جواهرها لفك رهن زوج أو ابن أو أخ أو جارة أم قريبة، وفي صدرها عب للنقود تخرج منه للبنت وللولد ولكل محتاج وطالب وراغب في الرغد والترفيه واقتناء ما يريد.
وكانت سفرتها كلها بركة أطايب وأنواع وحفظ للنعم من كسرة الخبز، التي تقع قسرًا تبقى تبحث عنها وتقبلها وتضعها في فمها درس من دروس حفظ النعمة،
ورضائها بالقليل لنفسها، والكثير لكل أفراد عائلتها،
أما الرجل فكان المعيل والمقدم وصاحب الهيبة والوقار، وله المكانة في نفوس عياله ورأيه ينفذ وبدون تردد ولا اعتراض.
كانت البساطة سيدة وكانت الطيبة سائدة والمعايش وإن ضاقت تتسع بابتسامة وهمة وقناعة وسعي، والتلاقي بين هناك وهنا يكون بمعادلة كفتي الميزان أصالة وحداثة بعيدًا عن التجاوزات ونكران الجميل، واعترافًا بجذورنا واستبشارًا بفروعنا وهكذا تصير النسمات الغليلة فوق خمائل الورود وبين أغصان الزهور، تتلاعب بوريقاتها وتداعب خدود خمائلها وتنفل الينا الراحة والاسترخاء، ومعلقات قصائد العشاق من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحالي..
ولا فرق بين ثورة الياسمين وبين ثورة الحساسين كلاهما يرجو ذائقة الحواس وانتصارات الثوار وعبارات النشوة وشغف الحضور للملايين ،الشعب يريد الياسمين ولا حياة في بلادنا بلا حدائق وجنائن معروشة بشتلات وغرسات، ومن عائلة العريش والتسلقات لتغزو الجدران وكل الأمكنة، وتحتار العيون على أيها تستقر النظرات ومن أي منها تتنشق وتقطف وتتزين وتهدي وتتمتع بجمال الياسمين وعطره ورونقه وقدرته على الدخول لكل مكان وبيت ومدينة وقرية وشارع وحي، بعكس كثيرين وضعوا في إقامة جبرية ضمن أمتار لا يستطع أن يتخطاها مهما بلغ من قوة ومكانة ...
ثورة الياسمين لا يفوز فيها إلا الياسمين وعاشقه ومتذوق روعته ومدمن لرائحته ومحب ولنصاعته...
فلا تحدثني عن جبروت العوسج ولا عن إيذاء العليق ولا عن أشواك الدروب... دعوني في عالمي الياسميني ومع انتشاء البطولة ونشوة النصر المبين وخذوا الظلم والاستبداد وخرائط البلاد وأنظمة الفساد ..
تحايا الياسمين لأهله ومحبيه ولحناجر صرخت لأجله ولقلوب نبضت معه ولأفكار تحررت له..
والمفاضلة بيني وبين أطفال اليوم شاسعة واسعة، إذ يترتب على قلمي أن يميل ميلة عظيمة صوب تاريخ كله براءة وحركة وألعاب وانسجام تام وكامل بين الملاعب وبين الأطفال، حيث كانت لنا ملاعب بلا حدود وليس كاليوم مؤطرة بجدران غرفة أو جدران ملعب كأني بها سجون مانعة للانطلاق ومخيبة للانفتاح ومحبطة للعزائم وسالبة للقدرات.
في زمن جميل كانت ملاعبنا الحي بأكمله زواريبه ودكاكينه وكل بقعة جغرافية فيه حتى تلك البساتين البعيدة لم تسلم من تماريننا وألعابنا ..
وحتى في القرى المدى هناك أوسع وأشمل ولا أخفي سرًا أنني كنتُ أحب اللعب كثيرًا مع الصبية ومع البنات في كل مكان كان لنا متاح .
وأذكر أننا كلما وصلنا إلى الضيعة لقضاء فصل الصيف والإجازة هناك، ولمساعدة الأهل في صناعة المؤنة أول مكان نتسابق إليه كان النهر وضفافه، ولو تدرون لمَ حتى نقبع القصب ونشذبه ونحضره للمطية.. كي يكون لنا حصانًا! والمضحك أننا كنا نحمل فوقه كل ما يطلب منا جلبه كأنه حقيقي وهو مجرد قصبة نركبها نجرها ونسعد لأننا نمتلكها...
وحتى الميكانيكي الوحيد هناك كان يترك عمله ليصنع لنا مرحبة خشبية بدواليب معدنية للترفيه عصرًا وقت الراحة، وجلوس الغالبية أمام المنازل لاحتساء؛ القهوة ولتبادل الأحاديث.
وصعود الشجر إما للقطاف أو لتخريب أعشاش العصافير أو للتنافس فيما بيننا من يبلغ أعلى الأغصان.
وكلما تعبنا ننزل للركض فوق التراب في الجلول وفي الأحراج نفتش عن السلاحف وعن الزيز وعن الحشرات الأليفة كي نضعها في علبة كبريت أو داخل صندوق ونخضعها لقوانين هي بالغنى عنها... وكانت تقضي وتنفق أو تغافلنا وتهرب.
ما أجمل ألعابنا وما أحلاها في المدينة! كانت الألواح هي الجدران والطبشور قطع من الفحم وكنا نرسم ونكتب ونخطط ونقضي وقتًا كأننا نتدرب فيه على فنون مختلفة ..
وحتى أكون منصفة لا مجال بين جيلنا وبين جيل اليوم؛ لأن الألعاب آلية الكترونية والحركة تقل وتقتصر على ساعة رياضة غالبًا يكون مدرس التربية المدنية غير موجود في كثير من المدارس.
التعرُّف إلى دروب الحياة ونحن نور ينبلج فينا ومن حولنا لهو انعكاس لتناغم بين النفس البشرية بالروح والجسد، ومعهما تلك الوطيدة بين المرء وبين الطبيعة بين القلوب وبين النجوم بين الأفكار وبين الفضاء تزاوج رهيب بين المشاعر وبين الطبيعة وبين الأحاسيس وبين مفاعيل التحليل الكلوروفيلي للضوء وللنبات، كما الشمس تجعل من الشجر أخضرًا طريًّا كذا هي تجعل من الإنسان شخصية هنية شباب وعطاء ولسان ويد وأرجل تسعى إلى الرغد وإلى السكينة وإلى كل ما يجعلها في سعادة دائمة ومالكة حصرية لجواز عبور من الدنيا إلى الآخرة بطمأنينة وسلام.
وهذا ما نفتقده اليوم ونخسره ولا نعمل عليه حتى فقدنا السيطرة على البوصلة، فاختلطت الاتجاهات للأجيال وكذلك الجهات وانقلبت الموازين واختلفت المقاييس، فلا خلفية موحدة ولا مستقبل واعد ولا بصيص أمل وبالمقابل يبقى لنا التأمل بفوضى هذه الأيام لإعادة ترتيب مناهج حياتنا وحياة أبنائنا، والبدء ولو من الألف عسى نصل إلى الياء ونحقق الفوز في الدارين لنا جميعًا.
أقله هنا في هذه الأرض والتي ما خلقت إلا لتكون، وما فيها مسخرين للإنسان وبكل ما فيها وما بها وما عليها وما لها من ايجابيات غمت على كثير منا ونحونا إلى السلبيات في تعاملنا، فكنا إما انحلالاً أو تطرفًا وضاعت الواحدة وخير الأمم بين ترهات ما هو واجب وما هو مرفوض، وابتدعوا مناهج حشو، وأزالوا منا روح الانطلاق، وخنقوا منافس الإبداع، وضيقوا على الوعي عند الأجيال الخناق،
وسنفك قيود وننزع عن وجه الأيام كل تجاعيد الوجع والإحباط سنلغيه من قاموس التداول وسنزرع مكان كل ما سبق ذكره، الإيمان والفرح بالعمل وبتشابك الأيدي، وباتحاد الهدف نحقق الإنسان الحر القادر على التأقلم مع محيطه والمحقق للمواهب والتارك الآثار النافعة في الحجر وفي الشجر وفي وجدان البشرية جمعاء
أطفالنا رجالات الغد يستحقون منا أن نكون أمة الوسط وخير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
مايو 14, 2023, 8:30 ص
رائع ♥️
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.