تراتيل السكون تُحاكينا بصمتٍ عميق، كأنها نغمةٌ خفيَّة تتسلل بين أضلع الليل، تلامس أرواحنا برفق، وتحملنا نحو عوالم بعيدة، حيث لا همسات ولا ضجيج.
في تلك اللحظات، يصبح الصمت بوحًا بليغًا، وقطرات الندى تنساب على الزهور كأنها كلماتٌ مسحورة تحكي عن كل ما لا نستطيع قوله. تتشكل الحروف في عيون السماء النجوم كأسرارٍ همست بها الرياح لتشهدها الليالي.
كل نسمةٍ في السكون هي قصيدة، كل وهجٍ باهت للضوء نافذة إلى أرواحنا، وكأن الكون بأسره يصلي في سكون، يُهدهد النفس، ويُطفئ لهيب الظمأ إلى المعنى. ويزداد السكون عمقًا، كأنه بحر بلا قرار، يغمرنا بلطفٍ لا يُدركه العقل، فنجد أنفسنا مستسلمين بين أمواجه الهادئة.
هناك، في أحضان هذا الهدوء السرمدي، تتجلى لنا حقائقُ قد غابت عنَّا طويلًا، ونعرف أننا حين نلتزم الصمت، نصغي لصوتٍ من داخلنا، صوتٍ يعرفنا أكثر مما نظن. وفي لحظةٍ ما، يصبح الصمت حوارًا، نتحدث فيه مع أرواحنا، نشاركها الحنين والأحلام، ونبوح لها بما يعجز اللسان عن قوله. تلك الترنيمة الخافتة للسكون تزرع فينا طمأنينةً غريبة، وتروي عطشنا للسلام، وكأن السكون قد أضحى معبدنا الصغير، حيث نختلي بذواتنا، لنجد أنفسنا ونكتشف أسرارنا المنسية.
هكذا تمضي تراتيل السكون، تنساب كأنها نهرٌ خفيٌّ، يربط بين قلوبنا وسماء لا نراها، ويعيد لنا يقيننا بأن في الصمت جمالًا لا يُدرك إلا حين نعانقه بأرواحٍ هادئة. ويعمق السكون فينا إحساسًا بأن الجمال الحقيقي لا يُرى بالعين ولا يُسمع بالأذن، بل يُحسُّ بالقلب.
تفتح هذه الترنيمات الصامتة في أرواحنا أبواب التأمل والتفكُّر، فنغوص في أعماقنا، حيث الحقيقة عارية من الزيف، حيث لا حاجة للأقنعة ولا حاجة للتبرير. تُعلمنا تراتيل السكون أن الحياة ليست سباقًا نحو الكلمات ولا طوفانًا من الأصوات، بل هي توازن هادئ بين حركةٍ وضوءٍ وسكينة. ففي لحظات السكون، نتعلم كيف نختزل الحياة في نبضٍ واحد، كيف نصبح أكثر وعيًا باللحظة، أكثر صبرًا وامتنانًا لكل نبضة تسري فينا.
نكتشف في هذا السكون معانيَ لم نلتفت لها يومًا، كأننا نرى أنفسنا أول مرة من زاوية نقية، بلا ضجيج الأفكار المتزاحمة. وحين ندرك ذلك، تصبح تراتيل السكون مرآةً تظهر ما بداخلنا، وتُعيد إلينا قلوبنا نقية، وتدعونا للعودة إلى بساطة الحياة، حيث يكفي أن نكون في سلام.
في أعماق السكون، نجد أنَّ هناك تواصلًا بين الروح والأفق، بين ماضٍ نحمله ومستقبلٍ لم يأتِ بعد. وكأنَّ تراتيل السكون تحمل رسائل مختبئة، تهمس لنا عن حكمة الكون؛ عن ذلك التوازن الذي يسري فينا حين نصمت.
وكأننا في كل لحظة من السكون نعود خفافًا، كأجنحة طائرٍ تحرر من ثقل الأعباء، نمتلئ بسلامٍ يُشبه صفاء الماء حين يعكس بريق الشمس دون انقطاع. عندها ندرك أنَّ الحياة ليست سوى نغمات تتردد بين صخب وسكون، كأن السكون دعوةٌ للتمعُّن في الذات، لحفر معانٍ أعمق لا تُقرأ إلا بين السطور. هو السكون الذي يمنحنا القدرة على أن نتوازن في عواصف الحياة، أن نفهم أن ما نبحث عنه ليس في صخب الأحاديث ولا في زحام الوعود، بل في لحظات هادئة تملؤنا باليقين.
اقرأ أيضًا: خاطرة "الحظ والحياة".. خواطر وجدانية
وهكذا، حين نصل إلى نهاية هذا التأمل العميق، ندرك أن تراتيل السكون ليست سوى بابٍ لرحلة نكتشف فيها أنفسنا، ننفض غبار الأيام، ونستعيد بوصلة الروح. ففي نهاية المطاف، ليس هناك جمال أعظم من سلامٍ داخلي، يُهدي قلوبنا طمأنينةً لا تزول، كأنَّها سكينةٌ أبدية تروي عطشنا للمعنى، وتجعلنا نعيش الحياة بكل ثبات.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.