"أنا أكتب إذًا أنا أفكر"، هي عصارة تأمل وتخمين عميق، جادت به بعض من أفكاري التي تجمعت بباحة ذاكرتي على مضض، فما كان بوسعي أن أتهيأ لتلقي مثل هذا الاستنتاج، إلا أنني وجدت نفسي أكتب بسرعة كي لا تنفر مني لحظة الإيحاء .
وما قد يتدحرج من أفكار من جدول التأمل، لتصب في بحر المعرفة، وإلى عالم بلا حدود، لأجد حالي قاصرًا على أن أصطاد بواسطة شبكة تأملاتي كل ما تشتهيه نفسيتي حينها، مع أني كنت أحاول ألا أفلت تلك اللهفة أو النشوة التي كانت تغمرني كلما كان كم صيدي من العبارات والأفكار وافرًا، بل وقد كنت ألتقط بعضها على حين غرة.
وقد أكون أسعد إن صادف أن تجود رياح الخير عليَّ، وأنا وسط يم التأمل العميق لترحل بي إلى جزيرتي العذراء، تلك التي لا تزال توفر لي كل ما قد لا يتخيل.
هناك لا وجود لقانون وضعي؛ لأن دستور الطبيعة لا يناقشه أحد، هناك ما لا يخطر على بال، لأن أرضها مكسوة بأفكار لا تنفذ ثمارها، وبها رياح موسيقى هادئة لا تفتر، هناك تختال أحلام جميلة بنفسها وكأنها ملائكة، نورها كألوان الطيف.
يمكنك أن تختار منها ما يحلو لك وكأنك تقطفها من فضاء لا أبعاد له، هناك إن شئت أن تتقمص أي حالة تهوى، يكون لك ذلك، فقط عليك أن تأمرها لكي تلبي رغبتك مهما كانت؛ لأن هناك لا وجود للمستحيل.
نعم هناك، أصير أمير الجزيرة الحرة مصحوبًا بأطياف بنات أفكاري التي تتدفق من حولي كالشلالات، مع أنه من حين لآخر، كانت تراوضني بعض منها لكي أنساق وراء ذلالها المغري.
فكنت أتحايل عليها أحيانًا حتى لا تتمكن من أن تأخذني إلى عالمها الغريب عما أنا معتاد عليه، فكنت أجد نفسي أحلق بفضاء لا جاذبية فيه، وكما يوجد به ما قد تفتقر إليه هناك على جزيرة أحلامي تلك، وكذا لك أن تختار مكان استقرارك إما بالحضيض أو بالأفق حصرًا؛ لأن ما بينهما هناك تدفن أسرار كل الأرواح، فلن تجد لها سبيلًا إلا إن ناديت عليها همسًا أو لمستها حين تدنو منك.
أما أنا فكنت ألاطفها إلى أن أحصل على غفلة منها، ما بين أحلامها وتأملاتي فيما كان عليَّ أن أنجز ما كنت أناهض من أجله، وهكذا، استمر الحال بيننا إلى أن تمكنت من أسرها بداخل مخيلتي، فقد كنت من حين لآخر أسمح لها بأن نتكاشف.
ونحكي لبعضنا جل ما يخالجنا دون أي حواجز أو ستائر، أي أننا كنا قبالة بعضنا بعضًا، وكأننا نتناظر من خلال ما يتبادر علينا من أفكار أو حتى هواجس عابرة، وغالبًا ما كانت جلساتنا تفضي إلى مخرج يحفه كثير من التراضي وآمال في التلاقي.
لهذا، كنت لا أجرؤ على المكوث هناك طويلًا، فكنت أنتظر فرصة الانسحاب أحيانًا دون أن تعلم ذلك كي لا توددني للبقاء، لكنها ما إن تكتشف غيابي إلا وتجدها تلاحقني لكي تبطئ من سرعة تفكيري.
محاولة أن تخدعني بكل ما قد يشوش على تركيزي، الشيء الذي لا ينجح معها دائمًا، فكنت غالبًا ما أنتصر على شيطنة أفعالها، وهكذا كان حالي معها في كل محاولة منها.
ثم هناك "آناي" التي كانت تتوعدني مرات لكي أسمح لها بأن أصحبها إلى حيث شاءت، خصوصًا وأن رغباتها كثيرة، فما إن أنفذ إحداها حتى تفاجئني بما لا أترقبه؛ لأنها تعودت على أن تتدلل فتلقى مرادها قد صار.
فكنت ولا أزال لا أتحمل أن تحرج، فكيف بأن تجرح؟! فيخيب ظنها بي وهذا أيضًا ما لن أقبل به؛ لأنها قد ضحَت وتحملت ما لا يحتمل منذ وجودها بمهد الطفولة، إلى أن غادرت سقف حضن المراهقة وبعدها.
فقد واجهت الصعاب وحدها إلى أن بلغت رشدها، وصار لها اسمها "أنا". هذه الأنا التي كلما تقربت منها بأسئلة لا أجد لها حلًّا إلا القليل منها حسب ما أمكنني ذلك.
لكنها غالبًا ما كانت تعاتبني لعدم تلبية مرادها، الذي كان ولا يزال أحيانًا يثقل كاهلي بغزارة المطالب وقلة الحيلة، فما كان يسعني إلا أن أعتمد على سياسة الملاطفة، وأحيانا أحاول الجبر بخاطرها، وذلك بأن أبحث عن بديل لرغبتها، وذلك حينما أجبر على أخذها معي إلى حيث تلهو وتمرح، محاولًا إقناعها بأنه لا يزال أمل موجودًا في تحقيق ذلك.
وأن السبب الوحيد لتأجيل الموعد كان أنه لم يحين الوقت المناسب بعد، وأن ما سيأتي من الزمن لهو أجمل وأمتع مما كانت تحلم به، فكانت المسكينة غالبًا ما تغض الطرف عما كان يقلقني، أو بالأحرى ما كنت عاجزًا على تنفيذه، لتحظى هي بما كانت تنتظره بحماس لا يقاس.
ومع مرور الوقت، أظن أنها أدركت أن صاحبها لا حول ولا قوة له في إيجاد حل آخر غير الذي قدَّمه لها، ليس لأنه بخيل أو أنه لا يبالي بما وعدها به، أو أنه متهاون في إبراز حسن نيته اتجاه ما كانت تصبو إليه، بل فقط، لأنه كان لا يمكنه أن يغامر بمصيره في سبيل إرضائها.
قد كانت تلك الرغبات مجرد نزوات ليس إلا، فكان عليه أن يثابر في تأسيس قواعد هيكل شخصيته أولًا، لكيلا تنهار ما إن قد تصطدم بعاصفة عاطفية مثلا، أو أنها قد تتزعزع أركان نفسيته على إثر مواجهة ظرف قاس أو غير متوقع من داخل وسطه أو خارجه.
فيترك ذلك أثر شرخ لا حيلة له معه إلا الاستسلام، وكذا غيره من التوقعات على درب حياته أيًّا كانت، ثم إن أمثال هاته الحالات الدنيوية واردة، بل وقد لا ينجو منها إلا قليل القليل.
كانت ولا تزال "آناي" تدافع عن نفسها كلما دعت الضرورة لذلك، وبدون إذن مني أحيانًا، فكنت أجاريها تارة وفي أخرى كنت أتعمد بلطف أن أجعلها تهدأ، وقد تتراجع عن إصرارها ذاك. وهكذا فقصتي مع آناي بدأت منذ أن وعيت بوجودها.
وأنا طفل شبه يتيم، بحيث كنت أصحبها معي بإرادتي أحيانًا، لكن غالبًا ما كنت مرغمًا على ذلك؛ لأنني كنت أخاف عليها لا منها، لذلك كثيرًا ما كانت رفيقة دربي كظلي، كي لا تحس بوحشة الظرف وقسوة الحال عليها.
فكنت أمازحها وأتصرف أمامها وكأن ما كنا نعيشه، كان مجرد أداء دور من الأدوار التي كانت ظروف الحياة، تكلفنا بالقيام به لفترة زمنية معينة لا غير.
وأننا سوف نتحرر من تقمص كل تلك الأدوار قريبًا، لنسترجع دورنا الحقيقي في عالمنا الواقعي أي أن نعود إلى ما كنا عليه مذ أن كنا صغارًا.
وهكذا وبكل براءة منها وتحيل مني عليها، كنت أحاول تخفيف العبء على كاهلها بقدر ما كنت أتحمل الوزر وحدي.
خصوصا، حينما كنت أجعلها تهدأ وترتاح قليلًا لكي تتمكن من أخذ فترة للاسترخاء، وغالبًا ما كانت تسهو قبل أن تسافر عبر قطار النوم بدون أن تودعني، وأنا جاثم على رصيف محطة بدون عنوان.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.