ما قيل من قبل في كفة، وما يقال اليوم وغداً وبعد دهر في كفة أخرى. لا ينتهي الحديث والثرثرة، فالصامت أصبح غريبًا منكرًا، بل صار ينعت بصفات التكبر، والغطرسة، والتعالي، والغموض.
قال الناس قديمًا: الصمت حكمة، ومنه تتفرع كل الحكم، والصمت نعمة لا يستمتع بها إلا القلة، والصمت من ذهب وألماس، وهو أيضا رفعة وتنزه عن الصغائر وعن الفتنة، فالصمت عقل وبركة وراحة.
وقيل في الكلام: الكلام الطيب يفتح أبوابًا من حديد، وقال الشاعر:
حسن الكلام كمثل العطر الفواح إن القلوب بطيب القول ترتاح
وقيل: بين كسب القلوب وكسر القلوب خيط رفيع اسمه الأسلوب، وقيل إن حسن الكلام وجمال العبارات تسحر الناس وتأسر قلوبهم، فالإنسان لا لحمه يؤكل ولا جلده يلبس، لكن حلاوة لسانه تجذب، والكلام بلا عمل كالشجر بلا ثمر والزرع بلا مطر.
فزينة الكلام العمل، وزينة الصمت الحكمة، وبين الصمت والكلام عشرة وصحبة منذ أزمُن، ضاع فيها الحيران يرتجي أيهما يقرُّ العين، ويُفحم عند اللزوم بالحجة والبرهان، وأيهما يبهت الوجوه فلا تستطيع الرد ولا النكران.
تخيل معي مدينة فاضلة يسودها الصمت، حيث الكلام بمقدار وعند الحاجة وللسلام، للعلم، للبحث، للابتكار، وليس بلا عبرة، بلا هدف ولا فكرة، هكذا فقط تقول وتقول وفي الأخير لا نفع ولا أثر.
تخيل لا غيبة، لا نميمة، لا إفساد بين الناس ولا ضغينة، تخيل نقاء السريرة، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئًا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
والكلام في غير موضعه مصيبة المصائب، يفسد ويضر ويؤذي ويؤلم، كلمات تقذفها كالسهم، لا تدري من وكيف وأين تصيب وما ينتج عنها من عواقب، أقوال تمازجت بالغضب فاشتعلت تحرق وترمي بالشرر.
أصوات تعلو بفحش الكلام، فأصبحت شجاعةً وشخصية وثقة بالنفس وتفوقًا وجدارة، لا يا أخي، بذيء الكلام ركام من تراب، هو الثرى لن يبلغ الثريا، لا يعلو بمقدار أنملة ولو صاح الجميع وهتف: ما أجمله! ما أروعه!
في زمن الرداءة كل شيء على غير حقيقته مموه، مشوه، فالصمت ضعف وتنازل وخوف وانسحاب وانكسار، نعم يا صديقي، إنك محق، في وجه هؤلاء لا يصح الصمت، بل الرد واجب، والقصف على جميع الجبهات وبكل الصواريخ والآلات.
إن قلت فأوجز واختصر، فالطابور وراءك طويل، كلهم يريد أن يقول، وإن تكرمت وتحدثت لا تحتفي بفضائلك وأشعارك وإعجابك بنفسك.
إن تكلمت فاستمع أيضًا، ولا توصد أبوابك في وجه من لا يوافقك، وتتقوقع وتتخيل أنك العالِم الجهبذ الذي لا ينسى ولا يخطئ.
أحلى الكلام ما قل ودل، وخير الصمت ما كان في مكانه كأنه نار في وجه الجاهل والغبي والأحمق.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.