الطريق غير ممهد، والأزقة كثيرة، ملتوية ومتعرجة، ومبانيها تبعث عليك إحساسًا بأنك تسير في وسط مقابر قديمة. فما تراه يمينًا ويسارًا لا ينم أبدًا عن حياة في هذا المكان. ولكنهم أخبروني أنهم هنا يحاولون إحياء الحياة مرة أخرى، وهذا ما استشعرته من سماع ضجيج متقطع ما يلبث حتى ينخفض وينقطع ويعود الصمت والسكون سريعًا.
ومع تناقص درجات البرودة وغيوم الطقس، تصيبك قشعريرة لم تعتدها من قبل، فهي ليست رجفة البرودة، ولكنها رجفة في النفس والعقل، وربما كانت انعكاسًا لتلك الصورة التي تحيط بك وترسخت في نسيج العقل. فمن زقاق إلى آخر، حتى وصلنا إلى درج قديم كان الهبوط عليه أشبه بالسقوط في بئر عميق، لنجد أنفسنا أمام باب متهالك تأكلت جوانبه، واعتلى الصدأ واجهته باتساخ، كأنه طلاء أصبغته السنوات التي ألمَّت به في غضون تلك الرحلة الطويلة. فحاله لا يختلف كثيرًا عن صورة البيوت التي تحيط به.
أمسك بالكتاب الذي كان يحمله بين منكبه وذراعه، وأخرج من بين أوراقه المقلاد، ووضعه في مزلاج الباب. إنه قرار المواجهة، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى فتح الباب بصرير يشعرك بالخوف والقلق، ثم يتبع هذا الصرير صوت عجوز يأتيه من الداخل، لتسأل عدة مرات متتالية: "من الذي حضر؟ من؟ من؟".
إنها المواجهة، فلم يعد يوجد وقت للتراجع.
كانت تجلس على أريكة خشبية قديمة لا تختلف كثيرًا عن حال الباب الذي دخلنا منه، فالرماد لم يترك شيئًا إلا وسكن فيه. المكان يكاد يكون مظلمًا، فلم يكسر ظلمته سوى شعاع ضوء ينبعث من مصباح قديم كساه التراب.
أما العجوز، تكاد ترفع ظهرها بصعوبة، فقد وصل بها الانحناء إلى حد التحدب، وبلغ منها الزمان مبلغه. فانحنى ظهرها وخفت نور عينيها وضاعت ملامحها، وتحول شعرها فوق رأسها إلى غابة بيضاء تشابكت فروعها الجافة، فنسجت شكلًا أشبه ببيت العنكبوت الذي يحيط بها في أرجاء المكان، وكأنها جزء لا يتجزأ من بيت العنكبوت. فمن تقع عينيه عليها للوهلة الأولى يصاب بالفزع، لكن العجيب أن أقدامها كانت لا تزال أقدام امرأة شابة تتحرك بحيوية الشباب. إنه تناقض غريب!
كان يقترب منها بحذر، إلى أن رفعت رأسها إليه بصعوبة شديدة، وكأنها تبحث في المكان عن هذا الصوت الذي يحدثها.
فسألته: "من أنت؟ وكيف دخلت؟"
- "دخلت بمقلاد إرادة التغيير لكي نتخلص من كل بؤس ويأس أظلم تلك الطاقة الروحية، وحولها لبيت خرب، ضاعت أمانيه، وغلبه اليأس في أن يحيا وتضاء أرجاؤه مرة أخرى.
فالمكان أضحى موحشًا، أشبه بكهف مظلم كست جدرانه قصصًا كثيرة بين اليأس والأمل والرجاء، وبين الكد والتعب والشقاء، وبين لحظات الراحة والسعادة والوفاء.
فقد نسج العنكبوت خيوطه ببراعة شديدة سنوات وسنوات، وهو ينتقل من ركن إلى آخر دون أن يشعر به أحد، فغزلت خيوطها ونسجت وأقامت بيتها حتى أصبحت فكرة الخروج من هذا الكهف أشبه بالمستحيل."
كانت العجوز تصرخ وتصرخ وتردد: "أجيبوني! ما الذي أتى بكم إلى هنا؟ اتركوني لحالي.
اتركوا مكاني كما هو، فقد اعتدت عليه واستسلمت لكل ما فيه.
لا تهدموا بيت العنكبوت.
اتركوني أعيش في ظلامي، فما عاد النور يعنيني، ولا عاد فقد الدنيا يشجيني.
دعوني وشأني، مستلقية على أريكتي، أنسج لكم اليأس بخيوط العنكبوت. لا مخرج لكم، لا مخرج لكم. اتركوني وشأني."
نظر إليها بشفقة وربت على ظهرها، وكأنه يقول لها: "ما أتيت إلى هنا إلا من أجلكِ، كي أُخرجك مما أنتِ فيه."
ضحكت العجوز بسخرية، وأجابته بأنه لا هو ولا هي يستطيعان الخروج؛ لأن الباب الذي دخل منه لم يعد له وجود، وعليه أن يبحث لنفسه عن مخرج آخر، ثم أشارت بيدها إلى صخرة كبيرة كانت في نهاية القبو، وقالت له: "إن استطعت أن تزيلها، فسوف تخرج."
كان الظلام حالكًا، حال الأزقة وأشباه البيوت التي تحيط بالمكان، وهو يبحث عن أي شيء يحطم به تلك الصخرة، ليهدم تلك القيود التي تحاصره. والعجوز تجري خلفه بأقدامها الشابة، فتصرخ تارة، وتهذي تارة، ثم يغلبها البكاء فتبكي، ثم تضحك، ثم يعاودها الصمت.
ولكنه لم ييأس، حتى وجد معول الهدم في يده، فأمسك به وهوى به على تلك الصخرة. وفي كل مرة يهوي بها عليها، تصرخ العجوز صراخًا يجوب العقل. فيتصبب عرقًا، ويشحذ همته وإرادته، فيرتفع معول الهدم في يده مرات ومرات، حتى بدا له بصيص ضوء.
فكانت صرخة مدوية، لم يعرف وقتها إن كانت صرخته بالخلاص، أم صرخة العجوز التي ماتت بداخله.
رائع ☕️
شكراً لمروركم الكريم
🙏🌹🙏🌹🙏
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.