إذا كنت تعتقد أن اللسان مجرد عضلة، إذا ما ارتفعت أو انخفضت تخرج أصواتًا نسميها "الكلام"، فأنت مخطئ تمامًا. فهو إما أن يأسر قلوب وألباب من حولك ويغزو به قلوب العذارى، وإما أن ينفر أقوامًا فيفرون من لقائك ووصالك.
فاللسان هو رسول شيئين يقوم عليهما كيان المرء كله: العقل والقلب، فكلاهما هما من يحدد قبول الآخرين لك أو رفضهم.
قالت العرب: "عقل المرء مدفون تحت لسانه"، أي لن تعرف أفكار وتوجه ومدى وعي شخص ما إلا إذا تحدثت إليه، ونازعته المعاني، واستولدت من فيه الألفاظ.
غير أن اللسان ليس دائمًا مطواعًا، ويشهد له التاريخ بخيانات كثيرة التي عُرفت اصطلاحًا باسم "فلتات اللسان"، فهو لا بد أن يوافق ما يجول في خاطر المرء، حتى وإن حاول إخفاءه، وتلك الزلات إما أن تكشف عن محبة سعى المرء لسترها، وإما عن عداوة رأى أن من مصلحته حجبها الآن.
واللسان وما يلفظه يكتسب شرعيته من القلوب، فإذا لم يتوافق ما يلفظه مع مكنون القلب، فلن يصل لقلب المستمع، ولن ترضخ له الروح، ولا تأنس له النفس، فينبعث فيها باعث ينادي بضرورة تكذيب ما قيل أو النفور منه، وذلك لشعور النفس بأن ثمة شرًّا قد طوق تلك الألفاظ، وقد انغمست في وحل الكذب والتزوير. يُحكى أن الحسن رحمه الله سمع رجلًا يعظ، فلم تقع موعظته بموضع من قلبه، ولم يرق له، فقال: "يا هذا، إن بقلبك لشرًّا أو بقلبي".
أما إذا توافق صدق القلب مع رغبة الروح، وعدم تمنُّع المتلقي، فهنا سيحدث تواصل غريب، يجعل من لسان المتحدث ساحرًا، إذا ما حرك عصاه، سقطت أمامه العقول ساجدة، تتلذذ بجمال المعنى، وتستطعم نظم الألفاظ، وتتحسس نعومة التواصل.
فإذا ما اتحد حسن لفظ اللسان وصدق القلب، وأُسْبِل عليهما بثوب لطافة السرد، والذكاء في الأخذ والرد، عندها فقط يتحول المرء إلى "لذة حسية"، ونديم لا يُمل، ورفيق يخفف عنك أعباء الحياة، فلا تحتاج معه إلى الإسراف في الشرح، ولا يجهدك التوضيح، فكأنك تحدث نفسك عن نفسك، وتربت عليها بيد حانية، في وقعها خفة كخفة الورود، ودفء كحضن الحبيب.
وهو أيضًا قد يحمل إليك رسائل محاورك، وقد تفهم من سياق الحديث أشياء غير التي ينطق بها حقًّا، يقول الله سبحانه وتعالى: {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم}. [محمد: 29ـ 30].
أي لا بد لما تؤمن به، وما يشغل قلبك وعقلك، أن يبرز في مفردات لسانك، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ما أسرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه".
وأحيانًا ينحاز اللسان لذكر اسم المحبوب، فينطلق مصرحًا به أمام الآخرين، فاضحًا لقلب قد ثمل بالشوق، وأنهكته زيارات طيف ذلك المحبوب، مجسدًا بيت الشعر الذي يقول:
"إن الكلام من الفؤاد، وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلًا".
فهذا العضو العجيب، القوي، الذي يملك مصيرك، ليس فقط "تكلم لأراك"، وإنما اجتهد في اختيار اللفظ لأتقبلك، واصدق فيه لأصدقك، وتلطف لأحفظ لك مودة أثناء حضورك، واحترامًا في غيابك.
خاطرة رائعة صديقتي رجاء
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.