الرحيل الأخير...
حلَّ الرحيلُ ولم تعدْ من بعـــده ** هل عارفٌ بمكانها وزمانِـــــــــها؟
حلَّ الرحيلُ فما تُرَى آثارُهــــــــا ** هل عارفٌ بوجودها وكيانِـــــــها؟
حلَّ الرحيلُ فأرختِ الحُجُبَ التي ** حالتْ، فهلْ من عارفٍ من شانها؟
ذهبتْ وما رجعتْ إلى قلبٍ غــدا ** في الحب، ليس يزال في زِنْزَانِـــها
ألقتْ صبابتَها على الصبِّ الـذي ** ما زال يعجبُ من ضيا إنسانِـــها
ألقتْ صبابتَها على الصب الـذي ** ما زال يرقص في لظى نيرانِــــها
أوهكذا تخفى معالمُ ردبــــــــها ** حتى تخلى الحب عن حسبانــــها؟
أوهكذا تخفى مآثر ظبــــــــــيةٍ ** حتى غدتْ لم تبدُ أوسطَ بانِـــــها
وهي الحياة تلوحُ من ألحاظِـــها ** وهي الحياة تكنُّ في ألحانِـــــــــها
وبنتْ حياةً لا يساقطها الضــنى ** والحب دنيا وهي جودُ بنانِــــــها
حتَّام هذا الرجْعُ بعد ذهابِـــها؟ ** ذهبتْ وما رجعتْ إلى أوطانــــها
وإلى متى ترسو سفينةُ بيِنــها؟ ** فالبَّينُ فتنتها إلى رُبَّانِـــــــــــها
هكذا رحلت عن عالم الحب، ولم يُرَ لها أثر...
وهكذا صارت عاقبة الحب الذي دام أربع سنواتٍ...
أربع سنواتٍ مضتْ سُدًى وعبثًا...
العبث الذي دام طوال رحلة الحب...
وكأنها مختَطفَة اختطافًا مفاجئًا...
هكذا لم تُسمَعْ منها تلك الأناشيد النابعة من ينابيع الحب الصافية...
هكذا انسلخت انسلاخًا، وما رنمتْ ترنمها بعد فقد القافية...
هكذا وعدتْ وما هي من بعد ميعادها وافية...
هكذا تحطمَّتْ هذه الأحلامُ...
هكذا انقضت هذه الأحلامُ...
هكذا انكسرت هذه الأقلامُ...
إلى هنا انتهتْ هذه الأفلامُ...
وازداد هذا الإيلامُ...
لا أقول عليها السلامُ...
بل أقول عليها الملامُ...
وهكذا ادلهمَّ هذا الظلامُ...
لا أريد أن يخبرني أحد عن الحب؛ لأن الحب ما لها علاقة بهذه الدنيا، ولا الدنيا تتعلق بهذا الحب الكاذب. بل أقول بملء فيَّ جهرا حتى يسمع الأصمُّ: إن الحب كله كذب، وإذا انكشف غطاء هذا الكذب، وجد العاقل نفسه غبيًا في ادعاء الحب، ووجد الذكي أنه أغبى من الحمار...
نعم... وقد أصاب الحب الأفول، وما له في هذا الثرى أصول، بل وقد أصابه بعد نشاطه الخمول...
لا تصدقوا من يقول الحب حيُّ، بل هو ميتٌ منذ عصر قيس بن الملوح، وعصر كثيِّر وعزَّة، وعصر جميل وبثينة، وعصر عنترة وعبلة، بل وعصر روميو وجوليتْ، وقد دفن في بقيع النسيان، وقد رمَّ...
الحب مات يوم اشتاقت ميُّ إلى الخليل، والخليل ما أرادها، حتى صار الحب يصارع أهله، وتصارع العشيقان في عالم الخيال، حتى كتب الرافعي صفحات في حبها، ولكن الخليل لم يكن مفتونا إلى هذا الحد...
حب ميّ حب حقيقي، وحب عنترة لعبلة ذاكٍ وحيٌّ، وحب امرئ القيس لفاطمة أكبر من قصيدته فيها، وحبه في بنت ملك الروم شديد إلى الحد الشديد، وحب قيس لليلى أرغمه حتى جعل ليلى كعبة يطوف بها ويلبي ليلى بدلا من: ﴿اللهم لبّيك، لبَّيك لا شريك لك لبيك﴾...
يوم آثر ملك بريطانيا إدوارد الثامن امرأة على العرش، ذلك يوم لا يكاد يصدقه أحد، ولا يكاد العقل يوافق ذلك؛ لكنه قال كلامًا مؤثرًا في عالم الحب، ولا يكاد أحد ينساه على وهو: ﴿إن العرش لا يعني شيئًا بالنسبة لي بدون وجود "واليس" إلى جانبي﴾...
قد يستغرب الناس من هذا الجنون البالغ بهذا الملك العظيم إلى ما قال عن حب امرأة وضيعة، ولكن الملك نفسه عرف أنه ليس سعيدًا إذا لم يصبْ سهمه قلب هذه المرأة؛ لأنها في ظنه أغلى من الصريف والتِبر...
الأحلام عندي الأحباب ضعيفة؛ لأن هذا الحب يفضي بهم إلى الحماقة، والحماقة من أمارات العشاق، وإذا ذهبت الحبيبة زادت الحماقة، وقلما يستدرك الأحباب ما يفعلون أحيانًا من الجنون، وتكثر السذاجة في أفعالهم، ويتصرفون تصرف البُلْه...
...
هكذا انطفئتْ مصابيحها، وأصبح العالم في الظلام بعدها، وذهبتْ مع فوانيسها وبتلك القناديل التي تشرق بها أرجاء عالم الحب، وصار هذا العالم في ظلمات ثلاث: ظلمة الوحشة، ظلمة الوجد، ظلمة الأشواق...
بعدها أغرد من الحزن من هذا الفراق، وأودعها من الشجن والشجو بي:
وداعًا أيُّها الظل المتقلص، ووداعا أيها الوجه المشرق...
وداعًا أيتها الغزالة التي تاهتْ وضلتْ في الصحراء...
صحراء العشق...صحراء الحب المتين المكين...
لا تجعلي ذهابك انتقاما من هذا الجهل العميق...
ارْبَئِي على نفسك، ولا تجعل الذهاب بلاء ونتيجة لأقوال الوشاة...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.