عنادها المجدي..
أخطأتُ وأخطأتْ، ولكن أخطاءها أكثر من أخطائي، ولكن الحائل بين البوح بهذه الأخطاء هو قلة تجارب في ميدان الحب، وأخطائي ليست مجردة الكلام القابل للتعارض أو الرد، ولكني أدري أنها ما علمتْ كل ما علمت من أخطائها، ولو أني أخبرتها بها لكان منها التعديل في أسرع الوقت...
وقد اتصلت بها يوما من الأيام، وأخبرتها بخبر ألقى في قلبها الأحزان التي لا تنساها أبدًا، وكان هذا الخبر ما جعلها تضطرب اضطرابات الشاة المذبوحة بعد إحكام الشفرة في نحرها، ولما أدركت ما قلت، عادت وأعادت الاتصال لتتأكد من هذا الخبر، ولكن التهور جعلني لا أصغي إلى ما تقول؛ لأني لا أريد أن أبقى تحت ظلها كما كنت قبلُ، ولا أريد أن أريها ضعفي بعدُ، ولكنها ما سكنتْ وما هدأتْ، وتنشَّج قلبها بعد أن سمعت هذا الخبر مني، ونغصَّ هذا الخبر أطايبها دون علمها، ولما أن صرت إلى الانصراف عنها، حاولت مكالمتي مرارا وتقول:
هل أنت تعرف مغبة فعلك...هل أدركت ما تفعل...هل أنت لم تخطئ في خبرك المؤسف؟
كل هذا الكلام لم يؤثر شيئًا في قلبي، بل زادت قساوة قلبي، فذهبت إلى أحد أصدقائي لتسأله عن أخباري، فجعلت البكاء رسالتَها الموحية، وروت حكايتها من البداية إلى النهاية مع ألم شديد في القلب، وتتحسر ولكنها تكتم التحسر، والشرر يخرج من فيها من البثِّ، والقلب صار في الجحيم من هذا الوقود المشتعل...
تقول إنه فعل وفعل، ولكني لم أعرف ما سبب ذلك، وأريد أن أعلم موقفي من حبه لي، إن كان صديقًا استمررت معه في الحب ثم أبحث عن طريقة مناشادته بعد، وإن كان كاذبًا، فلماذا لم يخبرني منذ هذا الأوان كيلا أضيع في سبيل حبه، ولست أطيق هذه التحديات التي تصدر منه حينا لآخر، وإن كان يريد أن يختبرني، فلماذا لم يتخذ طريقًا آخر لهذا الاختبار؛ لأني لم أعرف كيف أنجح في هذا الاختبار المعجز الذي لم أختبره في حياتي، ولعلَّه يعذبني ببعض خطاياي التي لم أعلم عنها شيئا، ويكاد يكتم شيئًا لم أعلمه، وأوشك أن أنهار من هذا الزلزال الذي يهزّ كياني، وإن كان يريد أن يفعل بي شيئًا فليقل حتى أكون على علم به كيلا أسيء الظن به، وليته يدري أني أكننت الحب الطافي على القلب، الحب الطامي النامي، الحب الذي لم أحبه أحدًا من الرجال في هذه الدنيا...
قال صديقي سأكلمه في هذه القضية، وأوافيك بنتائج ذلك قريبًا، ولكن اهدئي، لا تقلقي، أعرف أنه لم يقصد شيئًا آخر، ولم يضمر ضغينة في خائنته، ولم يكن في خزينته سوى حبه لك...صدقيني بهذا المقول، إنه يحبك كثيرًا، وكان جل حديثه اليومي يتناولك، حتى إنه لا يغمض عينه إلا على أنه يحاول رؤيتك، ويطمع في أن يجعلك أحب امرأة إليه دون أخرى، وليس في قلبه سوى هذا الحب الصادق الذي كنت في شك منه...
قالت: حسنًا! إذا كان الأمر كما قلت سأمسح دمعي ثم أصبر على هذا الاختبار والبلاء منه، وسأجعل في خلدي أنه لا يحب أحدًا غيري في هذه الدنيا، ولا أمتنع عن أن أضحي له بقلبي، فلا أبالي، ولكن المهم أن يعيش وحبي في قلبه، وقد أعرته جزءًا مني، وهو قد أعطاني كله، فلا يبالي، وعرفت يقينا أنه يحبني أكثر، ولكن أحيانًا قد يتغلب عليه بعض الأشياء التي لم أعرف مصدرًا لها أبدًا، ولعله يطلعني على هذه الأشياء في أوانها...
فلما زرتها بعد انقطاع بائن، وتهاجر شديد، تنفستْ نفسًا خطيرًا، حتى نبض قلبها نبضات عجيبة، وأشرق وجهها من رؤيتي، وكأنها حصدت حصادها، أو نالت ما لم ينله الناس قط في الدنيا، ثم قالتْ: وقد كنت أحزن عليك كثيرًا، وظننت أنك غير راجع إليَّ، ولم يكن شيء يرضيني قط منذ ذلك الحين، حتى وقد يئست منك، إذ طال بعدك عني، وطويت إشراقات وجهك عني، فالحمد لله أنك رجعت سالمًا وغانمًا؛ لأني قد كنت في انتظارك من قبلُ...
وقد قالت هذا الكلام عن صفاء القلب، وما قالته إلا عن الحب الزائد في قلبها، وما تستطيع أن ترده إلى أسفل أن ينقص من درجته خوف الندامة فيما بعد، ثم قالت لقد قتلتني بغير سكين لما فعلت ما فعلت، وما شعرت بالحيوية لما كان منك هذا الهجران، وظننت أنك لا تعود إلى هذا الحب، وقد أكننت في قلبي أني لا أعطي قلبي رجلاً آخر دونك ولو كان أجمل من يوسف أو أصبر من أيوب أو أحلم من يعقوب...
إن قوانين الحب الموضوعة ليست عندي شيئًا؛ لأني لا أريد أتقيد بها في حياتي، ولا أنقاد لأي قاضي الحب؛ لأني لا أؤيد فكر وضع القوانين في الحب؛ لأن الحب ينزعج بهذه الفكرة من هؤلاء الناس، ومحاولة وضع القوانين عبارة عن العجز في إيصال الحب إلى مكانته العليا، وإذا كان العشاق لا يستطيعون أن يحكموا عالمهم بما يبدو لهم من الآراء في كل نازلة وعارضة، فإنهم قد قرعوا باب الفشل في الحب، وإذا لم يحاولوا التحرر من قيود هذه القوانين الباطلة، فإن الحب يتخبط ثم ينقضُّ بنيانه في أسرع الوقت...
قالت: إذا كنت لا تريد التقيد بقوانين الحب، فلماذا تعذبني تعذيبًا شنيعا، وما دمت لا تتبع أي أحد في الحب، فلماذا لم تفكر في حرية حبك لي حتى لا أبيت في شجون وأشجان، حتى لا أمضي الوقت على الحسرة والخسرة، حتى لا أذوق الويل من تصرفاتك، وما دمت لا تتقيد بها، فلماذا لم تنشئ عالمًا نعيش فيه بلا تعاسة، ونجني ثمارًا يانعة من أشجارها المتفرعة، ولكني أراك تميل وتصبو إلى هذه القوانين، فأكثرت من الملاحظات العديدة، حتى كدت لا تترك شيئًا من أحوالي إلا وتقول فيها رأيا، أو تعديلاً... أوهكذا يجب أن يكون الأمر... أوهكذا ينبغي أن تتصرف يا فتى؟
ولقد رأيتك أعقل الناس على وجه الأرض، ولا أظنك غبيًا أبدًا، ولكن الآن تثبت لي أن فيك غباوةً، وأصبحت تعضني مثل الكلب الهصور، وما تركت عضوًا من أعضائي إلا وعضضته عضًا شديدًا، وما أحس بالراحة في القلب، إذ جعلت أضلاعي تتوقد من الأسى والشجون والأشجان، ولماذا أبقيتني في قفصك أتعذب وأتضرر؟
كتبت إليها رسالة لما كثرت انتقاداتي لها، ولما كثرت ملاحظاتي، وما وعيت عاقبة هذه الرسالة، وظننت أني سأبرأ من هذه الأشجان التي كنت منوطًا بها في ليالي كلها، وكنت لا أرى نجمًا من نجوم السماء إلا تهجمت مما أتهجم منه من أحوالها، ووتهكم مما أتهكم منه، ولكن اللوم يرجع إليها وإليَّ أكثر... فما لومي؟!
لومي أني ما أنذرتها، ولم أنصح لها لتعدَّل سلوكياتها، ولما اسودّت طياتها بهذه الخطايا، اندفعت إلى قطعة من الورق لأبثَّ فيها ما أجد في داخلي، ولكن عن طريق التهاجر والتباعد...
في اليوم الثاني فكرت في إيصال الرسالة إليها، ولكني أتجمَّد من كلماتي المليئة في هذه الورقة، فلما أعطيتها الرسالة وليت على دبري خوفا من حمل أشجانها إذا ولتْ عليَّ بدموع فائضة في خدَّيْها، ولا أبالي بالعاقبة؛ لأني قد غطَّيتُ قلبي بهذا الانتقام، ولا أريد أن أسمع كلمات الاعتذارات منها أبدا...
أخذت الرسالة دون أن تعلم ما حوته هذه الرسالة، إذ ظنتها بشارة، ولكنها ليست بشارة، بل إنها رسالة المآسي والتحسر، ولكن الذي يتعلق بهذه الرسالة غير مشروح في فِقَر هذه الرسالة...
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.