أعوام مرت على بعضنا، وعلى بعض آخر شهور، وربما على هؤلاء شهور، وعلى أولئك أيام على فراق عزيز غال لديهم، اختطفه الموت منا في رحلة ذهاب بلا عودة، رحلة من عالمنا الدنيوي إلى العالم الآخر.
رحلة ذهاب بلا عودة (one way)، من الزيف إلى الحقيقة، من حلق الضيق إلى أوسع طريق، من الظلمات إلى النور، من دار الفناء إلى دار البقاء.
وأنا واحد ممن عانى مرارة الفراق وقسوة الأيام بعد الفراق، قضيت أكثرها في رحاب من فقدت ومع ذكرياته التي تتابعت على عقلي كأمواج البحر تأخذني أحدها وتردني الأخرى، ومع الأسف فإن البقية الباقية من عمري أقضيها بين دروب الحياة وبين رحاها التي يعانيها القاصي والداني.
أعلم تمامًا أني لست الأول، ولن أكون الأخير الذي يفقد عزيزًا لديه، وأدرك كل الإدراك أن يومًا ما سأكون أحد هؤلاء الأعزاء المفقودين.
وهنا سأتوقف قليلًا، تلك الرحلة يبدأ الاستعداد لها منذ لحظة الولادة، ومنذ هذا التاريخ ينتظر كلٌ منا إشارة البدء للانطلاق، ويختلف ميقاتها من شخص إلى آخر، ولا يعلم الميقات إلا الله -سبحانه وتعالى- ولحكمة لا يعلمها إلا هو تباركت وتعاليت يا ألله.
قد يحدث في وقت من الأوقات (بروفة) للحظة الانطلاق هذه، فقد يتعرض أي منا لحادث ما عندئذ يحدث له كما يقال (شاف الموت بعينيه)، وهذه الجملة البسيطة تعني أنه قد شارف على بدء الرحلة، ولكن إرادة الله شاءت أن تمهله بعض الوقت.
في لحظة تتوقف فيها عقارب الساعة عن الدوران معلنة بدء الرحلة (5-4-3-2-1-0) انطلق، وهكذا بدأت الرحلة مع آخر نفس يخرج بخروج الروح من الحلقوم، فهي عندما تبلغ الحلقوم ستكون الحقيقة واضحة وجلية، فبصرك حينئذ حديد؛ أي حينها تكون قد أدركت نهاية الرحلة.
لكن إلى أين؟ شاء الله -عز وجل- أن يخفي عنا ميقات الرحلة، لكنه أعلن لنا عن وجهتها، فهي إلى وجهتين لا ثالث لهما إما جنة ونعيم وإما نار وجحيم، وقد شاءت إرادته -جل وعلا- أن يترك لنا حرية اختيار الوجهة، كل منا حسب استعداده لها، وعلى كل منا أن يملأ جعبته بما يسد رمقه في رحلته السرمدية.
بعث المولى -جل وعلا- فينا موكلين عنه (هم الرسل) لتوضيح نهاية الرحلة وما يتبعها من مزايا أو عيوب، وكيف سيؤول الحال عند الاختيار، فإما جنات من نخيل وعنب وأنهار من عسل مصفى، وإما جحيم وسعير، وعذاب أليم مهين عظيم.
ليس هذا فحسب، بل بينوا لنا المنهاج والسبيل إلى الوصول إلى أي الطريقين، وضربوا لنا الأمثلة التي تبرهن على ذلك، الغريب في الأمر أن أكثر الناس لا يعقلون، وجُل الخلائق لا يفقهون، ومعظم البشر لا يتفكرون فما السر في ذلك؟
ورغم وضوح المنهج فإن قلة هم الذين يدركون أي الطريقين يسلكون كما قال الحق: «وقليل من عبادي الشكور»، وقال سبحانه: «وما آمن معه إلا قليل»، ربما لأن أحدهما (أحد الطريقين) محفوف بالمكاره وقد فطر الإنسان على اختيار الأسهل وعلى المتعة الوقتية، ربما.
لكن ماذا عن الاستثناءات؟ لقد أنعم الله على بعض خلقه ببعض الامتيازات التي لم يحظ بها بقية خلقه، وفي ذلك حكمة أخرى، فقد اصطفى بعض البشر وحمل عنهم عبء الاختيار، واختار لهم الطريق القويم كالنبيين والرسل الذين لا ينطقون عن الهوى، وكفاهم عبء توصيل الرسالة، وأولياء الله الصالحين الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
والشهداء الذين استحبوا الموت على الحياة من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض، وكذلك الأطفال الذين قضوا نحبهم ولم يبلغوا الحلم بعد، والصديقون الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، من منا لا يتمنى أن يصطفيه الله من بين خلقه، ويحمل عنه عبء الاختيار، وأن يجعله من إحدى تلك الفرق، ولكن هل الأمر من الصعب أن يحدث؟
إن مختلف الفرق السابقة اصطفاها الله اصطفاء خاصًا، فلا اختيار لهم فيه، لكن أعطى الله لنا منحة أن نشارك هذه الفرق هذا الاصطفاء، فالأمر ليس مستحيلًا، لكن كيف؟
لقد جعل الله للبار بوالديه نصيبًا من هذا الاصطفاء، فقد جعل جزاءه الجنة، فيا من أدركت والديك أحدهما أو كليهما عند كبرهما اغتنم الفرصة، فز بالعرض (offer) الذي لن يتكرر لتكون من هؤلاء المصطفين الأخيار، اربح جنة عرضها السماوات والأرض، أيام معدودات في هرمهما تكون تحت قدميهما تظل أبد الآبدين في جنات عدن، ولمن فاتته الفرصة في حياتهما فلا تزال الفرصة موجودة حتى بعد الممات.
فالدعاء أيضًا بر لهما، فإن كان بموتهما قد انقطع عملهما إلا أن دعاءك يزيد من رصيد حسناتهما كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «ولد صالح يدعو لهما».
عزيزي الغالي يقينًا أعلم أنك في جنة الخلد، وكل ما أتمناه وأرجو الله تحقيقه أن ألقاك وأنعم بمرافقتك في الآخرة كما منحني شرف مرافقتك في الدنيا.عزيزي الغالي إلى أن تأتي شرارة البدء للانطلاق في رحلتي لن أتوانى عن الدعاء لك عسى الله أن يتقبل دعائي.
سبتمبر 25, 2023, 2:09 م
أكثر من رائع
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.