قُدر لي أن أشاهد فيلم (الأرض) للمُبدع محمود المليجي أول أمس، وهذه ليست المرة الأولى لي أن أشاهد الفيلم.
ولكن هذه المرة توقفت أمام مشهد رائع يوضح لنا مفهوم في غاية الأهمية، والجميل أيضًا أن الطب النفسي قد أشار لهذا المفهوم، وهو أنه يوجد فرق كبير بين القيمة والثمن، وللأسف فكثير منا ونتيجة عدم فهمه ومعرفته بهذا المفهوم فقد أساء إلى حياته وربما مستقبله.
نعود للمشهد ثم بعدها سنوضح الأمر. فإذا شاهدت فيلم الأرض ستشاهد مشهدًا للفنان علي الشريف (دياب) وهو يأكل الطعمية ويقول: (ياما أنتم ممتعين نفسكم يا أهل البندر) إشارة إلى متعته وهو يأكل الطعمية.
ولو كنت أنت من أطفال الريف زمان كنت ستعرف بالتأكيد إحساس دياب، وإنه كان مستعدًّا أن يترك ويضحي بفطيرة مشلتتة ومعها قطعة جبنة قديمة ثمنهما يتعدى 200 جنيه من أجل ساندوتش طعمية بـ5 جنيهات؛ لأنه ببساطة نظر إلى القيمة وليس إلى الثمن، وكذلك إذا خيرت حضرتك الآن طفلًا بين قطعة شوكولاته 20 جنيهًا وبين جاكت بـ1000 جنيه سيختار الشوكولاتة؛ لأنها تمثل له قيمة، فهو نظر أيضًا إلى القيمة وليس الثمن.
أيها السادة.. كثير منا ولعدم معرفته وفهمه لهذا الأمر وقع في أخطاء عدة، حضرتك سافرت وغبت كثيرًا عن أبنائك من أجل المال (الثمن) ولكنك نسيت أنهم وأنت فقدتم قيمة مهمة للغاية وهي لمة أسرتك حولك، حضرتك اهتممت بعمل صفقات سواء بطرائق شرعية أو غير شرعية (الثمن) لكنك أضعت قيمة مهمة وهي قربك إلى الله وخشيته، حضرتك اهتممت بشغلك وانشغلت به كي تنجح وتكبر (الثمن) لكنك أضعت قيمة قربك من زوجتك وحفاظك على بيتك، وهكذا.
سيدي.. إذا لم يرك أولادك أعظم أب في الدنيا، وتملؤهم قيمة وجودك، فأنت لم تفعل شيئًا، أنت مجرد بنك لهم فقط، يعني شيئًا له ثمن ولكن ليس له قيمة.
سيدي.. إذا لم تكن أنت الرجل الأول في عين زوجتك فأنت لها مجرد قائمة عفش ومؤخر وليس إنسانًا يمثل قيمة لها، وذلك لأنك اهتممت بالثمن وهو كثرة العمل وادخار الفلوس ولم تهتم بالقيمة وهو إشعارها باهتمامك وقربك ودلالك لها وفهم بنيتها النفسية.
أيها السادة.. أخيرًا تلك هي رسالتي في مقالي هذا، أنا هنا لا أدعو لعدم الجد في العمل أو لعدم السفر للبحث عن فرص أفضل، ولكن ما أدعو إليه أن نجعل هذا المفهوم طوال الوقت أمام أعيننا، ونفرق دائمًا بين القيمة والثمن.
نعم قد تعمل 12 ساعة لتوفير احتياجات أسرتك، ولكن هذا قد لا يمثل لهم شيئًا مقابل خروجة بسيطة لا تستغرق ساعات عدة.
فالحفاظ على الأسرة قيمة لا تقدر بثمن، نعم قد تسعى للترقي في العمل، ولكن لا يكون على حساب أن توشي بزميلك أو تلقي به إلى التهلكة، فالترقية ثمن ولكن حسن الخلق والصداقة قيمة لا تقدر بثمن.
نعم قد تريد أن تأخذ موقفًا مع جارك أو تظهر له مدى قوتك، هذا ثمن، ولكنك أضعت قيمة لا تقدر بثمن وهي حق الجار وحسن الجيرة، وهكذا ألف مثال.
وأنهي كلامي هنا بموقف لأبي سفيان بن حرب حين أمر بحصار المسلمين وفيهم الرسول الكريم في شعب بني هاشم، وأمر بوضع حراس على الشعب حتى لا يرسل أحد لهم طعامًا وشرابًا، وقد تسلل أحد الكفار وحاول أن يرسل طعامًا لأقاربه كانوا قد أسلموا وحوصروا مع المسلمين، فأُلقي القبض عليه وضُرب بشدة، فجاء أبو سفيان وقال كلمته الشهيرة التي حفظها له التاريخ: "تضربون رجلًا يصل أهله؟! يا قوم لا تفسدوا كل أخلاقنا".
لم ينظر أبو سفيان للثمن (الحصار) على الرغم من أنه ممن أمر به، ولكنه نظر إلى القيمة، وأراد أن يحافظ عليها (صلة الرحم) لأنه يعلم أن مجتمعًا بلا قيمة تحكمه سيتحول إلى غابة بلا قيم أو مبادئ، لذلك علينا جميعًا أن نعلم أن الثمن رخيص، أما الثراء الحقيقي فهو القدرة على امتلاك القيمة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.