خاطرة "الفيل الأزرق".. خواطر وجدانية

وضع رأسه على الوسادة بعد أن عزم على النهوض باكرًا باتجاه الغابة لجمع الفطر، فقد حلَّ موسم قطفه، ووجب أن يكون أول الوافدين لكي يستأثر بالأجود والأحسن منه.

إن قصتنا اليوم ليست آنية ومن الحاضر، فهي مقتطفة من الماضي لنتعرف خلالها على صديقنا الشجاع وكيف بدأ حياته بجمع الفطر التي بالمناسبة فهي من المهام المحفوفة بكثير من المخاطر. مخاطر ليست لما يسكن الغابة من ضواري ووحوش، بل الخطر يكمن في ما يجمعه صديقنا من مادة الفطر.

لقد سأل جده يومًا عن كيفية التفريق بين الفطر الضار والنافع، ليُفاجأ بجوابه الذي جعله أكثر حيرة من ذي قبل، وقد دار بينهما هذا الحوار الشيِّق الذي يُعدُّ درسًا في الحياة:

_ كيف أفرق بين السام والجيد من الفطر يا جدي؟

_ لا يمكنك.

_ كيف؟! لا بد أن هناك سبيلًا لذلك!

_ طبعًا توجد طريقة، وإلا كيف يستطيع البعض جمعه وتناول الشهي منه حتى جعله مصدر قوت لهم ببيعه؟

_ لكنك لم تخبرني بعد كيف التفريق بينهما؟

_ جوابي لك يا ولدي هو أنه عليك أن تتذوقه أولًا، ولا يوجد حلٌّ آخر، لكن احذر أن يصادفك فيل أزرق يُلهيك عن مقصدك.

لقد كانت إجابة الجد لحفيده صادمة وغريبة؛ إذ كيف له أن يتناول الفطر هكذا فلربما يكون مُمِيتًا، ثم ما قصة الفيل الأزرق؟ فالغابة التي يُراد التوجه إليها لا تسكنها الفيلة، ليلتزم حينها صديقنا الصمت لوهلة وراح يفكر في حديث جده الغريب.

بعد هذه المحادثة التي بالتأكيد لن تُمحى من ذاكرته، ها هو نراه يحمل عدته وعتاده وهو سكين صغير، فبعد أن تناول فطوره ووضع في جعبته لمونة خفيفة من أجل جوعٍ طارئ يمكن أن يداهمه في أي لحظة. أما حين ولج الغابة، فقد بدأ بالنظر من حوله علَّ عينه تقع على ما يُريد.

في البداية، كان يجوب الغابة بغير هدى، فلم يكن يعرف الأماكن جيدًا، أما بعد ذلك فقد بدأ بحفظ زواياها، والتعرف على منابت الفطر، وهي خطوة لا بأس بها وتُعدُّ تقدمًا ملحوظًا، أمَّا وبقيت خطوة التمييز بين الخبيث من الطيب، أقصد السام والجيد منه، فهو مُرادنا وما نصبو إليه في رحلتنا هذه.

وهو متوغّلٌ إلى الداخل، نراه يلمح فطرًا ضخمًا وكأنه مُعَدَّلٌ جينيًّا، فتلمع عيناه كطفل صغير، فيقترب منه متفرسًا فيه ذات اليمين وذات الشمال، لينهال عليه بسكينه ويقتلعه من جذوره.

حمل صديقنا غنيمته وهو ينفض من عليها الأتربة والطين، وبمجرد أن قضم قطعة منه، شعر بغثيان ودوار يلف رأسه، وسرعان ما باغته استفراغ شديد أخرج معه ما في جوفه من عشاء الليلة الماضية، فضلًا على فطوره الذي تناوله منذ وقت ليس بالبعيد.

لقد كاد يُقضى عليه، ولولا الاستفراغ الذي استفرغه لما نجا، فقد تخلص من السم الذي كان يحويه ذلك الفطر الذي لمعت عيناه من أجله، ليتعلم صديقنا أول درس في الحياة، وهو أن ليس كل ما يلمع ذهبًا؛ أي بمعنى آخر أن حجم الفطر ليس معيارًا لجودته.

لكن قبل ذلك دعونا نقف على المشهد وحالته وهو يصارع الآلام التي كانت تقطع أحشاءه، فالعرق الذي تصبب كاد أن يملأ به دلوًا من شدة غزارته، في حين اغرورقت عيناه بالدمع وجَحَظَت وكأنهما حجري نرد رمى بهما صاحبهما في لعبة حظ، تليها ضربات قلبه وكأنها طبول حرب معلنة عن بداية معركة حامية، فتبدأ أطرافه بالارتعاش وعدم الثبات، وخُيِّل إليه أنه في حفل راقص بمعية بنت السلطان نتيجة النَّشوة التي كانت "أمانيتا ماسكاريا" هي السبب في ذلك بأن جعلته يشعر بالإثارة، فيصنع مشهدًا من الهلاوس أخذه بعيدًا عن الغابة وما جاء من أجله.

وبينما هو غارق في نشوته، يلمح فيلًا أزرق متجهًا صوبه، فيحاول تحريك قدميه من أجل الهرب بعيدًا، فإذا بهما مزروعتان في الأرض كدرنة تأبى الاجتثاث، فيباغته بضربة بخرطومه توقعه أرضًا يفقد بها وعيه.

بعد ساعات قضاها ممددًا، ينهض صديقنا لا يعي شيئًا، ومع ذلك فقد نجا من موت محقق فعلًا، ولولا عناية اللَّه لكان في خبر كان. أمَّا وقد كُتِبَ له عمر جديد فمن أجل أن يتعلم الدرس، ويغدو ضليعًا في التعرف على الفطر وأنواعه، إضافة إلى يقينه بحكمة اللَّه في اختباره وأنه عليه اجتيازه والنجاة منه.

صديقنا أصبح مع الوقت لديه تلك الملكة التي تخبره بمعادن الناس، أقصد الفطر، فنكساته واستفراغه الذي لازمه مدة من حياته خلال تذوقه له في كل مرة، خصوصًا الجديد منه من أجل التعرف عليه، لم تذهب سدى، فقد اكتسب مناعة تُخبره عن الفطر الصحي والفطر الضار، خاصة فطر عيش الغراب الذي كاد أن يقضي عليه يومًا، فغدا كمثل ذلك الحكيم الذي يملك فراسة العرب قديمًا في معرفة الناس.

أما الآن فأستطيع أن أجزم أن قصة صديقنا قد انتهت بانتصاره على الفطر، وعلى تلك الصورة البراقة التي يحملها هذا الأخير ليظهر بها أحيانًا، فيُسقط العديد من ضحاياه من هواة المظهر الخادع، تمامًا كتلك المرأة الحسناء سيئة المنبت التي توقع ضحاياها في شَركها.

لكن مهلًا، فالعبرة من قصتنا اليوم أعمق من ذلك، فهي ترمز إلى تلك العلاقات الإنسانية التي يتحمل البعض عبء عدم جودتها وجديتها، فيُصاب بالإحباط أحيانًا، فبعد أن كان يتمنى أن تضيف له وفي مسيرة حياته، نراه يتعرض للتفريغ والاستنزاف، وإن لم يستدرك الأمر، فإنه يُمسي خاويًا من كل محتوى.

إن الحياة وتجاربها تشبه تمامًا ما كان يعيشه صديقنا في الغابة في بحثه عن الفطر الجيد، وأحيانًا علينا أن نمر بمواقف، حتى ولو كانت صعبة على أرواحنا، وإلا كيف نتعلم الدرس؟ لذلك شئنا أم أبينا، فإن كل موقف يحدث في الحياة بإمكانه أن يكون درسًا، وسواء أتى بألم أو بمحبة، المهم أنه يُعلمنا شيئًا وهي سنة الحياة.

أما اليوم فإن صديقنا أصبح ضليعًا في أنواع الفطر، وبات يقيس درجة جودته بمجرد النظر إليه، فأضحت لا تغريه تلك الألوان وذلك اللمعان الذي يُعمي القلوب قبل الأبصار، فقد كان لا بد عليه أن يتناول الفطر ولو القليل منه لكي يقيس درجة جودته وسُميته، وإلا كيف له أن يُصبح ضليعًا في التعرف عليه، تمامًا كما يمر المرء بتجارب إنسانية يقيس بها درجة مناعته وقدرته على التكيّف، فقد استفرغ صديقنا كل ما كان عالقًا في حياته من أمور لا تساعده على المضي قدمًا.

لذلك، هو اليوم حريص جدًّا على جودة ما يستقبله، ليُدرك أخيرًا أن الشجاعة ليست هيئة ولا شكل، لكنها شعور يحياه المرء بكل سلاسة، وهي هبة ونعمة من اللَّه لعبده التقي.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة