أكيد أنه لكل منا هدف في مجال حياته، وقد تكون أهداف مهمة بعيدة المدى الزمني، كل حسب ما يروقه وحسب توجهاته ومراميه. وعمومًا، يوجد في الأقل نوعان من بني البشر: ففيهم الحالم ومنهم الواقعي، وكلاهما قد يحقق ذاته بكل سلاسةوبأقل تكلفة مادية كانت أو معنوية كذلك.
لهذا، فالأول قد لا تنقصه جرأة أو عزيمة الإقدام في الشروع لما يراه مناسبًا له. وكذلك الثاني، إلا أن الفرق بينهما قد يتجلى في حالتهما النفسية وكيفية تعاملهما في هذا أو ذاك الشأن. وبالتالي، مدى جاهزية كل منهما إزاء تصرف عفوي أو مفتعل، إلى غير ذلك من ردود أفعال شتى...
لا يهم إن كان المعنيان بالأمر من نفس الجنس أو غيره، أو ينتميان إلى عرق أو دين أو طبقة من شرائح المجتمع عينه أو مختلف عنه؛ لأنه في مثل هاته الحالات، ينفرد كل منهما عن الآخر بما كسبا في حياتهما من أخلاق وتجارب وتكوين وغيره من المقومات الذاتية بالخصوص.. فقد يصيب الحالم في حاله، ويخطأ الواقعي في أخرى، لكن بدون شك أو ريب، لن يقبل أحدهما بحالة فشل أو تردد.. لأنه حينها، سينتصر الفائز على حساب الآخر، وهذا ما لا تقبله النزعة البشرية حيثما كانت ومهما كانت الظروف متاحة، أم على عكس ذلك...
وتستمر الحياة دون أن تعير أي اهتمام أو اعتبار لأي منهما، لا من حيث القوة البدنية لديهما ولا من حيث ما تيسر لهما من جاه أو ثروة. بل وبكل بساطة، إنها تلك القيمة المعنوية للشخص وتلك الملكة التي يكتسبها من خلال تجاربه وتضحياته من أجلها، ما تجعل أحدهما يتفوق عن الآخر، بكل ثقة واتزان فيما يصبو إليه، وكذا نهله من زاد المعرفة بطرق أكاديمية كانت أو عصامية،
وهنا أيضًا، الغاية تبرر الوسيلة.. خصوصًا إن ازدانت بهالة مكارم الأخلاق، التي هي مكمن وجدان الإنسان مع نفسه، وأيضًا وسط محيطه مهما كانت أرضيته؛ لأن صاحب علم، لا يتجرأ على أن يعامل الآخر بما لا يسمح به عقل. أو أن يسطو على ملك الغير، أو أن يمارس فعلا لا حق له فيه. وبالأخص، إن كان يمس حرمة الآخر كذلك أيا كان صنفه أو نوعه...
وأكثر من ذلك، إنها تلك الأسرار التي قد تخفيه الأيام عنا، كمفاجئات غالبًا ما تكون سلبية، وفي هذه الحالة وجب أن نتشبع بكل شجاعة وإقدام، لمنع تسرب بوادر الفشل مهما كانت درجاته أو ما شبه، لكي لا تغتال تلك الأنانية والكرامة بدواخلنا على عتبة براءتنا وحسن نوايانا.. لأنه حينها، سيمكث هاجس الخوف والقلق جاثمًا على بصيص أمانينا أو ربما قد نفقد على أعقاب هذا الحدث أو ذاك، أساس قاعدة كياننا الوجودي، وهذا ما لا يحمد عقباه على كل حال. فالأنانية المعتدلة لها وقع محمود في حياتنا، بل إنه يجب أن يتحلى بها كل من نفسه مفعمة بحب الحياة ومحبة الآخر بدون مقابل. وكذا وجب السيطرة على بعض أوجاعنا كما على بعض نزواتنا، التي تأخذنا بعيدًا عن إنسانيتنا أو تلك التي ترحل بنا إلى عالم، قلما نجد أنفسنا به على ما يرام، ولو بدا وكأنه فضاء جنة على الأرض...
فكثيرًا، ما نصبو إلى إدراك أشياء تبدو غاية في الغموض ويستعصي علينا أن نجد لها ما يبرر وجودها، أو ما قد ينفعنا للمس حقيقة وجوبها، لهذا سيظل هاجس البحث عن مغزاها كمطلب يراد به إشباع تطفلنا أو تلبية رغبتنا، في خوض غمار فضاء التأمل والتطلع إلى ما هو أفضل، وإلى الحصول على أجوبة مقنعة وثابتة، لكي يهدأ بالنا ويتبدد قلقنا بعيدًا عن ظلمة المجهول وآثاره على نفسيتنا، كلما صادفتنا مشاهد نادرة، تلك التي تتخلل في ثنايا حياتنا، وتتربص بها وكأنها طريدة سهلة المنال. والتي كذلك، ما برحت تتهافت وراء إبلاغنا خبر قصور معرفتنا إياها، بل وقد تلوح لنا بأننا سنظل نرجو منها العون والمدد من أجل استمرارنا على قيد الحياة، مهما ضحينا بوقتنا ومهما وهبنا من أعمالنا اتجاهها بدون كل ولا ملل.
لأنها سوف تعمل في المقابل على أن تجعل منا عبيدًا لديها، وبعضهم قد تعتق رقابهم لأنهم أقسموا على أن يأخذوا منها بكل إصرار وحزم ما لا يهدى، وما لا يمنح بالمجان؛ لأنهم كافحوا من أجل ذلك بكل ما لهم من شأن في عالم المعرفة والبحث العلمي، بل ومنهم من تمكنوا من ضبط الزمن لديهم، وكأنهم من يوزع فرص إحياء بذور الخير على باقي العباد...
وقد يستمر الأمر على هذا المنوال إن لم ينهض ذاك الإنسان البسيط من سباته، أو من اعتماده الكلي على غيره في كسب المعرفة ووسائل العيش المتاحة له؛ لأن عامل الزمن هنا، لا يرحم رغم أن صفحات الأيام قد تتشابه لديه، لهذا وجب على كل من يمر بمثل نفس الحالة المذكورة أن يعمل على برمجة جل نواياه ومشارعه، بحيث لا يترك للفراغ أية فرصة لكي يتمكن منه. وبالتالي، ليدفعه إلى ما لا يريده لنفسه أو لذويه...
ثم إنه لمن الضروري، أن يسعى كل فرد بكل روح المسؤولية، ومن خلال ما يحرك فيه نفحة الإنسانية اتجاه محيطه ومكان تعايشه. لكن وبكل أسف، يوجد هناك من هم مغلوب على أمرهم في شتى مناحي الحياة بصفة عامة. وذلك لأن أغلبيتهم ما يزالون يتخبطون في وحل ظروف زمنهم، فقط لكسب قوت يومهم من جهة، وكذا ليحافظوا على جمع شمل أسرهم، بل والمحظوظ منهم، من له مسكن لائق وزاد وافر وعمل قار. وهناك في بعض ربوع الأرض، أناس لا يسعني إلا أن أتحسر على أحوالهم، وأتساءل، هل يكفي فقط، الرثاء في حقهم؟
كثيرًا ما تساءلت هل سيصحو يوما ما، ضمير الغالب؟ أو القوي؟ أو الغني؟ أو الحاكم الظالم؟ أما المستضعفون وما أكثرهم، فتجدهم يمقتون أنفسهم بل أحيانًا ما يحقدون عليها وعلى حظهم المتعثر. أو في أحسن الأحوال، يجاهدون قلبًا وقالبًا لمجرد أن يتعايشوا ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي، حيث يهدرون طاقاتهم من أجل بقائهم على قيد الحياة لمدة أطول، مهما كلفهم الحال ذلك. وهذا أسوأ، لأن عمر الإنسان لا يتمطط وظروف العيش لا تزداد إلا تشعبا في جل مجالاتها المتنوعة.
فتدوم حيرة العاقل هنا إلى أبعد الحدود. وتظل أسئلتهم عن ظروف أحوالهم بدون أجوبة شافية إلى ما لا نهاية، مع أمل باهت في أفق الآتي من الأيام. وعلى العموم، لكل حظه في ربوع هذه الحياة، فبعضهم يراها جميلة ولا ينقصها إلا الكيف، وآخرون يشكون قساوتها فتراهم بؤساء. ولكي تتحسن ظروفهم قد لا يحتاجون إلا للكم، ومنهم لا يؤمنون لا بالحظ ولا بالقدر لهذا تجدهم يعتمدون في حياتهم على الكيف والكم. وهناك حالات استثنائية وهذا طبيعي، ويبرهن على أن فطرة الإنسان تتشابه نسبيا، أما المكتسب لديه فذاك أمر سيبقى مطروحًا للنقاش ما دامت هناك رغبة في تقبل الآخر.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.