إن الطبيعة الإنسانية في صلبها لا تختلف عن بعضها، مهما حاولنا إيجاد فوارق على مستوى الشكل أو اللون أو الجنس، فلن نفلح في ذلك؛ لأن التباين بينهم سيكون طفيفًا لا يذكر حتى. لهذا سنمر إلى مرحلة أخرى أكثر أهمية وذات مقاربة حثيثة، ألا وهي تلك التي يحسم في مساحاتها الزمنية، كل ما يتعلق بهذا المخلوق المتطور أولا بالفطرة، الذي غالبًا ما تبرز علامة امتيازه عن غيره في مراحل تكوينه الأولى، ثم بعد ذلك تسقل مهاراته بالتجربة وكم التحصيل.
أما النفس أو الروح أو ما يسمى " بالأنا "، تلك المسميات التي تعبر عن كيانها، حينما تطل من خلال عين العقل، الذي بدوره يحاول أن ينظم سير أفكاره وردود أفعاله، حسب ما يعايش من ظروف وأحاسيس نابعة من داخل أو خارج الجسد. ذاك الهيكل والشكل المعتاد كما ورثه عن أسلافه. هو من يتصدى للمكروهات كلها بعناية وتحسب، وله من الأعوان ما يحتاج إليه وأكثر، ومع ذلك قد ينهار أحيانًا أمام زوابع محيطه، بحيث تأتيه الظروف بما لا يكون في الحسبان، لكنه غالبًا ما يتغلب على أهوال الحال إلى حدود المحال.
حينها يستشعر بداخل قفصه الصدري عضو نبيل بقوته وأحاسيسه، الذي يتقلب حسب أحوال صاحبه المسكين، رأفة به وربما ليتمسك به بقصد نجدته أحيانًا، وليسيطر على مواقفه في الأخرى. أيا كانت كذلك، حسب استطاعته وما يمتلك من تجارب سابقة.
وهكذا فقد نلاحظ أن القلب مصدر كل إحساس صادق، لا يعرف كيف يتستر على صاحبه. بل بالعكس، قد يفضح سريرته للغير بدون قصد أو إرادة؛ لأنه أرهف مما يعتقد. فلا يمتثل لسلطة الغير عليه، فتجده لا يقوى على ستر أية طارئة كيفما كانت إرهاصاته العفوية منها أو المصطنعة.
والمهم لديه ألا يترك أي منفذ محتمل، لكي تتسرب من خلاله أية ضربة أو سهم قد يكون سبب فشله، أو حتى التفكير في محاولة رد فعل قاس، أو محتمل أن يدفع به لعدم السيطرة على نفسه ولو لحين، لهول ما يتلقاه كحالات ظلم أو عدوان أو غيرها من الأسباب التي تأتي على حين غرة، كطعنة في الظهر. . تلك التي لا يمكن أن تنسى لأنه ليس بالسهل أن تغفر لها لأن الإصابة تضحى كجرح مفتوح وقد يتعفن، وحتى إن عولج بعد مدة زمنية، قد تخلف مكان الجرح ندبة غائرة، وبالتالي لا علاج لها بصفة نهائية.
وهكذا نلاحظ أن هذا الغلاف الحي لهذا المخلوق يتأثر بكل ما يحيط به من عناصر الحياة الأساسية، أي أنه يظل ضعيف المقاومة، سهل الاجتياح، قابل للانصياع، ومبرمج للتعايش والاستئناس مع جل أحوال واقعه أينما حل وإلى حيثما ارتحل.
فلا بد له من المثابرة والتمسك بخيوط الأمل ولو كانت رقيقة أو نادرة حتى؛ لأن مصيره على هذه المركبة السابحة، مرتكز على مدى قوة تحمله وسعة خياله، وكذا كم ما اكتسب من حيل ومهارات من خلال ما ورث عن سلفه، ومن دون شك إن أخذ هذا العبء السرمدي على محمل الجد، كان الفوز نصيره لا محال...
أما قيمة الإنسان على العموم وبدون تصنيفه، لهي أرقى وأعظم من صفات الحيوان ولو كان أليفًا، إلا أن بعض البشر تتجاوز نية وحشيته فطرة الحيوان. فإن نزعت من الإنسان إنسانيته ماذا تبقى له؟ قوائم يقف عليها وجمجمة منصوبة بين كتفيه وسواعد ينهش بإحداها وبالأخرى قد يحتاجها كما تستعملها الحيوانات...
لا شك أنه لن يكون عادلًا في تعامله مع نفسه وكذا جسمه، أما الحيوان فقد خلق حيوانًا، ولا حرج أيضًا إن تغلبت وحشيته على فطرته. أما أن يخلق فردًا إنسانًا وتزيغ فطرته على إنسانيته، فهو بدون شك أيضًا، من الأرجح أن يسمى - أنسيوان - وما أكثرهم مع الأسف.
وأقرب الأمثلة لهذا المشهد كمقارنة بسيطة جدًا: حال إنس بعدما يتناول وجبة أكل ما، يغادر مكانه تاركًا محيطه مبعثرا بل مقززًا ببقايا وجبته وغيرها كما يترك الوحش بقايا جيفة للطيور الجارحة...
مع أن الصيرورة تتطلب منا أن نكافح ما استطعنا، لنسيطر على أوضاعنا الخاصة وسط حملات الزمن، وما قد يحمل معه من موجات المعاصرة ومظاهر اجتماعية جديدة، قد تبدو أحيانًا يسيرة كما عهدنا، لكن بعضها تحمل في أحشائها تيارات جارفة.. نادرًا ما تمر بدون أن تخلف من وراءها أثرًا مدويًا أو جزرًا مخيفًا أحيانًا أخرى.
إلا أنه يجب على الفرد منا بكل ما في وسعه أن يقنع نفسه أولًا، بأنه صاحب حق بعزيمة وجرأة ثابتة. وبالتالي، قد يفتخر بين ذويه بما قد يتلقى من مدح وامتنان وغير ذلك من دعم ورضي على ما قدمه للآخر، بدءًا من تحرير نفسه من تبعات الماضي، ثم أن لا يهتم إلا بما يهمه وبما يشغل باله، من أجل تحقيق ما قد يجعله سعيدًا بدون أن يضر بأحوال الآخرين.
سبتمبر 11, 2023, 8:55 م
جمىييييييل
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.