خرج شريف الحداد محتدًّا وركب سيارته الفارهة، ثم بدأت ألوم نفسي على أنني أوصدت بابًا لصديق ما زال له في قلبي مساحة ضوء.
وبدأتُ أدوِّن بقية المذكرات لعل في كتابتها بعض العزاء.
أمسكتُ بالقلم العريض وكتبت على الواجهة (الصغار)،ورتبتها بأسمائهم:
١- شريف الحداد.
٢- عاشور أو العسس.
والبقية تأتي، لن أحاكم أحدًا فقط محاولة لأزيل أثقالاً وهمومًا غمرت الذاكرة.
(عاشور)
يد خفية وعامل يجمع الأوراق والتوقيعات، ييسر تناقل المعاملات والمعلومات. يلوكها كما يلوك العلكة ذهابًا وإيابًا، ويطري عليه أناس لا يعلمون أن كلامهم اختزن سرًّا.
لا تستطيع أن تنأى عنه فهو المجامل والمداهن للجميع، والموجود دائمًا في قلب الدائرة ويصنع الخير للمال، ولا يخسر أحدًا.
اجتماع يا أساتذة، تنبيهات، مجاملات، وإفطار جماعي يجمعنا به عاشور بعجلته التي تلف منطقة القلعة كلها في دقائق معدودة.
(السلام أمانة يا أستاذ ) كلما رأى أحدًا سلم على الآخر الذي لم يره بحرارة وكأنه افتقده منذ عام.
كيف تعلم أبواب الحكمة المستعارة والوجد المزيف وهو بالكاد يكتب اسمه، ولم يحظ من التعليم إلا بهذا القدر المتواضع .
عاشور أو العسس كما يلقبه الموظفون فيما بينهم.
هذا النمط من البشر الذين يستطيعون أن ينتصروا دائمًا من خلال الدخول من الأبواب الخلفية.
هذا الجمع أصبح مخيفًا ولا ندري الصادق فيه من الكذوب.
أنا شخص كبرت بعض عمري في بلد غريب فكنت أتحدث بلهجة لم يألفها أقراني، وتعلمت ثقافة الغرباء وأنا بعد صغير، وعندما بدأت أتواصل معهم بلهجتهم سافرت إلى بلد آخر.
ودائمًا أنا المختلف.
حبي للتحدُّث بالعربية كان فرارًا من مأزق اللهجات وليس مدعاة للفصاحة والتحذلق كما ظن الآخرون.
فبحكم سفر عائلتي حياتهم المتنقلة كبحر مضطرب أدركت الجميع ولم أعرف أحدًا... وفي سفري اقتحمتني روح بابل، وعشقت أبواب الشام السبعة، اخترقتني أضواء القلعة، وأسرني حي الحسين.
أنا العاشق الغريب والممتلئ حبًّا، مت وجدا ولم يدرك ما اختبرته أحد.
كنت أنظر لعاشور وأغبطه سرًّا كيف استطاع أن يتمثل حب الجميع وينقل لهم ضوءًا مزيفاً.
جاءني عاشور وهو يجمع بعض المجاملات، وذكر اسم شريف الحداد ثم ابتعد.
ناديت عليه: لماذا انصرفت يا عاشور؟
- نظر إليَّ متعجبًا: أخذ مكانك وأفسد ترقيتك وتجامله!
- اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، ليس هذا وقت اللوم، يكفي أنه مريض.
- هل أسألك سؤالاً يا أستاذ ؟
- تفضل يا عاشور.
-كيف تستطيع أن تكون حقيقيًّا لهذا الحد؟!
فقلت له: (يوم ينفع الصادقين صدقهم).
رد وقد بدا عليه حزن طارئ وأوغل في نفسه: إن صدقوا يا أستاذ.. إن صدقوا.
وانصرف باكيًا.
سألني زميلي: ماذا قلت له؟ لماذا انصرف باكيًا؟
- لا شيء يا سليم، لا شيء.. ربما شعر أنه مزيف.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.