جلست على طاولة في مقهى الأدباء، وفي الحقيقة كان المقهى للهواة والكتاب الصعاليك، ولكنه كان يُزيِّنُ جدرانه بصور العظماء..
أحضرت قهوتي، وما أن أمسكت بالقهوة حتى وقع نظري على إحدى الصور المعلقة، ورأيت صورته مع أحد المسؤولين وسط صور أخرى بارزة على الحائط، وقد أحاط بها إطار عريض.
شعر النادل باهتمامي بالصورة فأخذ يعرف الأشخاص وكأنه مرشد سياحي، اصطنعت الإنصات له كتقدير لمحاولته إضفاء الواقعية على حديثه، ولكن للأسف، كل ما قاله كان خطأ، ولم أعلق فلا ينقصني الجدل، كما أني لا أريد أن أسبب له حرجًا.
-لنفسي لا أحتاج للتعريف به، يكفي أنه كان صديقي الحميم.
كان شريف الحداد يرافق الكبار، كان بمثابة بعثة دبلوماسية وحده.
أحيانًا كنت أتعجب من ثباته عندما تتواتر الأحداث، عندما تختلط الحقائق بالادعاءات، فلا هو بالرجل الذي يتقن المغادرة ، وليس بالشخص الذي يعلن الاستسلام.
أما أنا فالقلم الذي يتوارى ويحتجب إذا استشعر زيفًا. فالكلمات إن أنا كتبتها واستشعرت بعد ذلك أنها لم تكن الحقيقة الكاملة، ولم يطمئن لها قلبي جاءت بجرحها الدامي كل مساء لتحاكمني.
لا أجيد المراوغة، وأمقت الجدال، ولا أتفاوض في قضية خاسرة، وأنا للآخرين مهما حاولت الاحتجاب والغموض كتاب مفتوح.
كنا وجهين للحقيقة، وكان أحد الأصدقاء يطلق علينا عندما يرانا معًا اجتماع الحمائم والصقور.
أتذكر أنه في إحدى الأمسيات، كنتُ أجلس معه فخانني صوتي بعد بضعة أيام من البرد المتواصل، لم أستطع الحديث ولكن كان هناك حوار يدور رغمًا عني.
قال لي: هل ستأتي معي لمقابلة الوفد الدبلوماسي؟ وقبل أن أوضح له بصوت خافت أو إشارة كان يقول لي: بل ستذهب.
فقلت لنفسي: لقد عرف ما كنت أنويه!
فقال: نعم ، عرفت.
نظرت إليه وقد ازدادت دهشتي متسائلًا في صمت:
كيف عرف ما لم أفصح عنه بصوت ولا إشارة.
فقال لي: لست بحاجة إلى صوتك، وجهك كتاب مفتوح، وضحك حتى استلقي على الكرسي.
تملكني الغيظ من وجهي الذي يعلن كل شيء ويفصح حتى عن أسراري.
أوشكت على المغادرة فإذا أحدهم ينادي على النادل:
-فنجان قهوة آخر هنا وأشار إلى طاولتي.
نظرت فإذا هو، كأنه يعلم أنه اخترقني في حنيني إلى الماضي قبل أن يقتحم خلوتي. كاد النادل يقفز من السعادة عندما رآه، كأن قدومه إعلانًا لتأكيد صدق حديثه، ودليلًا إنه يعرفه.
أشار إلى النادل أن يضع كرسيًّا آخر بجانب الطاولة ثم قال: كنت أعلم أني سأجدك هنا.
-نظرت إليه: تجلس معي وكأن شيئًا لم يكن! سأغادر.
-لا فائدة، ما زلت تتعامل معنا بأننا ما زلنا الصغار وأنت الفتى الوجيه.
-لا يا شريف، أنت تعلم أننا كنا نقتسم الخبز والقصص والضحكات معًا، لا تحاول أن تلقي عليَّ بوشاحك هذه الطريقة لم تعُد صالحة.
-لن ترحل سأمارس سلطتي عليك.
-أي سلطة يا شريف؟
-سلطة الصداقة، سلطة الاهتمام، سمها ما تشاء...
-سلطة الصداقة أم سلطة الأنا؟
يصمت شريف لوهلة ثم يبادر قائلًا: أنا آسف.. ولكن ليس أنا من اختفى يا عمار وقت المواجهة ولعن الكتابة والكتاب، وآسر السلامة، وهاجر كوسيلة مراوغة لفض الاشتباك.
-المواجهة مع من يا حداد؟ معك؟!
يحاول تغيير الحديث: لن أطلبك ثانية، إذا كنت بحاجة إلى الحديث مع صديقك القديم فاعلم أنه لم يفت الأوان بعد، وأن باب مكتبي ما زال مفتوحًا سواء بالجريدة أو المنزل.
يعطيه بطاقة مدون بها العنوان.
-تقصد القصر يا شريف، لا تخف لن أضل الطريق إلى قصرك مكانك الآن هو أبعد من أن أصل إليه.
سبتمبر 9, 2023, 10:21 ص
جمييل..
سبتمبر 11, 2023, 10:42 ص
شكرا لمرورك الكريم غاليتي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.