نحن لا نحيا لأننا نحب الحياة، بل نحيا لأننا مُجبَرون عليها، لأن غريزة الحياة (إيروس) تتشبَّث بأرواحنا، ترفض أن تمنح غريزة الموت (ثاناتوس) الفرصة كي تُريحنا برحمتها. لكن هل هذا يعني أننا راضون؟ هل يعني أننا نعيش بإرادتنا؟ كلا! نحن مجرد كيانات محاصَرة بين قوتين متضادَّتين، بين حرب باردة لا تهدأ داخلنا.
إيروس.. ذلك الوهم الجميل، تلك الغريزة التي تدفعنا للتشبث بالبقاء، تمنحنا جرعات مؤقتة من الشغف.. من الحب.. من الحلم.. من الضحك.. من الأمل، فقط لنواصل. تهمس لنا في الأذن: "اثبت ، يوجد سبب للحياة"، تُسكِّن آلامنا بوهم الاستمرارية، وتُلقينا في سباقٍ محمومٍ مع الزمن فقط لنظل واقفين.
أما ثاناتوس.. فهو الحقيقة العارية، هو كل لحظة ملل، كل نوبة اكتئاب، كل إحساسٍ بعدم الجدوى، كل نظرة شاردة نحو العدم. ثاناتوس لا يأتي على نحو مباشر، بل يتسلل ببطء، يتجلى في سيجارةٍ تُستهلك.. في علاقة سامةٍ تُنهك القلب.. في ليالٍ بيضاء دون طائل.. في مخاطرات لا طائل منها.. وفي النهاية.. في قرارٍ نهائي، في نهايةٍ مختارة.
فرويد يرى أن الإنسان يقضي عمره بأكمله في مقاومة غريزة الموت، لكنه لا يستطيع إنكارها؛ لأن الموت ليس كيانًا خارجيًّا، بل جزء أصيل منا، يسكن داخلنا، ويكبر معنا، ويذكرنا كل يوم بوجوده. معركة شد الحبل بين إيروس وثاناتوس لا تتوقف، وما دام أن إيروس هو المنتصر، نظل واقفين، نكتب عبارات زائفة مثل: "لقد تغيرت"، "لم أعد أبالي"، "أنا بخير على الرغْم من كل شيء"... لكن الحقيقة؟! نحن لسنا بخير، نحن فقط نؤجل النهاية.
چومانا حداد، الكاتبة والشاعرة اللبنانية، ترى أن الانتحار ليس استسلامًا، بل انتصارًا لغريزة الموت وقرارًا واعيًا بإنهاء هذه المهزلة، رفضًا للانتظار المهين، فالموت حين يأتي وحده لا يأتي كريمًا، بل يُذلنا، يتركنا أجسادًا واهنة ننتظر النهاية في مشافٍ باردة، نشاهد الحياة من خلف نوافذ مغلقة، فيما أرواحنا قد فارقتها منذ زمن.
أما أدونيس، الشاعر السوري، فقد حسمها بجملة قاطعة: "الحياة امرأة حبلى بالموت دائمًا". الحياة ليست كيانًا نقيًا مستقلًا، بل هي رحم يحتضن الموت، يُنمِّيه في داخلنا، ويُهيّئه للحظة ولادته الكبرى. كلنا نولد لنموت، لكن الفارق الوحيد: هل ننتظر أن يختارنا الموت؟ أم نحتضنه بقرارنا؟
رائعه جدا
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.