ما الشعر؟ سؤال صعبٌ جدًّا، لو كنتُ سُئلتُهُ منذ عامٍ لاندفعتُ قائلًا: هو كلام يعبِّر به الإنسان عن إحساسه تجاه الأشياء، ويُصوّرها ملتزمًا باللفظ الجزل الفخم وحرفٍ يتكرر في آخر كلّ بيتٍ. هذا ما كنت سأقوله، ولكنني الآن أصبحتُ مترددًا حائرًا أمام هذا السؤال.
إن المذاهب قد كَثُرت، فقامت قضايا حول الغموض والوضوح، وقامت بحوث تناقش السهولة والتعقيد، وتناول العلماء قضية الرمز في الشعر.
هل يجب على الشاعر أن ينظم بلغةٍ سهلة مفهومة تُؤتي المعنى في أول وهلة؟ هل يجب على الشاعر أن يبتعد عن الزخرفة البديعية والعبث اللغويّ؟ هل يجب على الشاعر أن يتحدث عن أفكار عميقة؟
أولِع بعضُ الشعراء بالجناس، وأولع بعضهم بالألفاظ الغريبة، وألزم بعضهم نفسه ما لا يلزم في الشعر، والتزم بعضهم الشعرَ العقليّ العميق العويص المغسول من التأنُّق اللفظيّ.
هل تجنُّب هذه الأمور يجعل القصيدة جيدة؟ كلا! لقد وجدتُ بعض النقاد يذمّ التقعُّر والتكلف والإكثار من الألفاظ المعجمية قليلة الاستعمال، والكلمات القَبَليَّة الشاذة (أي التي تختص بقبيلة واحدةٍ من قبائل العرب)، والمحسّنات البديعيّة. كما وجدتُ -على الضِّفَّة الأخرى- طائفةً تكره اللغة المبتذلة والنثرية والعبارة المألوفة القريبة والأسلوب السلس السهل والمعنى الشائع المعروف.
كنتُ أفضّل ديوان اللزوميات لأبي العلاء المعريّ، لكنني وجدتُ ناقدًا عاقلًا محقِّقًا يقول: المعاني في اللزوميَّات تتكرر حتى تُمِلَّ القارئ وتُسئمَهُ، وهذا معناه أن الشاعر لا يجد جديدًا يقوله فيظلّ يُبدئ ويُعيد مكتفيًا بتغيير الصياغة. والعبث اللغويّ مُسيطر على الأبيات كافةً. وتناول هذا الناقد المعاني العنيفة الموجودة بالديوان وأخذ يردُّ على أبي العلاء ويصوّب أخطاءه الفكريّة.
أصبح أبو العلاء رجلًا واعظًا مملًا، صاحِبَ فِكر سطحيّ منحرف، مُعلِّمًا يتقعَّر بما اطلع عليه في كتب اللغة، حافظًا يستعرض ثقافته الغزيرة ليقهر بما غيره. أبو العلاء -إذن- ليس شاعرًا مجدِّدًا ولا فيلسوفًا ذا منهج فكريّ. إن أبا العلاء زاد الشعر تعقيدًا وبُعدًا عن معناه الحقيقيّ. ليس في شعره جمال الصياغة ولا تنوُّع الأفكار. إن ديوان اللزوميات يغلب على أبياته الإسفاف والضعف ! إن أبا العلاء المعريّ أفسَدَ الشعر وأدنَىٰ جمودَه !
لقد طعن الناقدُ شاعري العزيز طعنةً واسعة فسقط الأخيرُ ملطَّخًا بالدم. وإن أخَذَتِ الناقدَ الشفقةُ -وهلةً- على المصائب التي ابتُليَ بها الشاعر.
وأخذ هذا الناقد يُسقط الأصنام الأدبيّة، كأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي ومِهيار وأحمد شوقي والعقاد وحافظ إبراهيم... إلخ، آخذًا على دواوينهم ما كنتُ أراه فضيلة ومزيَّة.
إن هذا الناقد لَم يُضِف جديدًا، فأفكار أبي العلاء الوعظيَّة والشَّكيَّة والتمجيديَّة والسوداويَّة التشاؤميَّة معروفة، وتكلُّفه البديعيّ والعروضيّ في اللزوميات لا يخفى على أحدٍ، ولكنه حوَّل هذه الخصائص والفضائل إلى معايبَ وفضائحَ.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.