خاطرة «الروح المتحررة».. خواطر وجدانية

استيقظت روحي ذات مرة من سباتها العميق، ونفضت عنها غبار السنوات، واتخذت من السماء فضاءً فسيحًا؛ لتُحلَّق في رحابه، وتُرفرف بجناحيها كالطائر الجريح؛ لتنفض ما علق بها من أدران العالم الأرضي، الذي أصابها بالجمود والخمول، واجتثَّ منها كل معايير الأخلاق والقيم والفضائل، وكاد يزهق أنفاسها ويحيلها إلى رماد.

لتنثرها بعد ذلك رياح التفاهة والابتذال في هوة سحيقة لا قرار لها.. هناك في ذلك العالم الملائكي، اتخذت لنفسها بيتًا ومقرًّا، لتفيض دموعها الأبدية أنهارًا؛ تسقي بها كل روح أنهكتها صروف الدهر، وتبعث الحياة في كل قلب جريح استبدت به أيادي القدر الغاشم، فخارت قواه واستنزفت طاقته وقل عطاؤه.

نعم، فإن الروح المُتحرِّرة، لا بد لها من الانبعاث يومًا، مهما طال غيابها، ومهما غاب وعيها، ومهما بهت إدراكها، وإذا نهضت واستيقظت من غيبوبتها، فلا بد حينئذ أن يستجيب لها القدر، ويسجد تحت أقدامها، ويُقبِّل يدها السحرية، ويصبح خادمًا مُطيعًا لها، ويسهر على إرضائها، ويطيع كل أوامرها.

إن الحياة الإنسانية الأصيلة دائمًا تبحث عن المعنى في كل شيء، ولكن المفارقة الكبرى هي أنها لا تجده مع أنه يسكنها ويسري في عروقها ودمائها؛ لأنها بكل بساطة أسلمت روحها المُتحرِّرة إلى الضمير الجمعي منذ الأزل، حتى أصبح مصدر استيلابها وانبتاتها، وأصبحت تتغذى على فتاة خبز الزمن الغاشم الممزوج بعرق الظلم والاضطهاد.

وعندما يأتي ذلك اليوم الموعود، وترهف السمع إلى ذلك الصوت الداخلي الذي يستغيث منذ طفولته الأولى عبر ذلك الجدار الشفاف، فتُصغي إليه وهو يُردِّد كلمات يملؤها الشجن: "أيتها النفس المتحررة، أنا لحنك الخالد، أنا صوتك المشبوب بالحب والجمال، أنا ذاتك الحقيقية التي تسعى للخلود والكمال.. فلا تتركني بعد الآن، واحتفلي بمولدي، وأنت ترددين أغنية الحياة، وتعزفين على قيثارة الأمل."

في تلك اللحظة تشعرُ تلك النفس بالانتعاش، وكأنها بُعِثَت من بين ركام الذكريات، وتحسُّ بالسكينة تدب في أوصالها، وترفع عن وجهها قناع الزَّيف والوهم.

وفي تلك اللحظة، تتهاوى أعمدة الوهم والزيف، وتتحطَّم أصنام المعتقدات الركيكة، ويظهر ذلك "المارد الرهيب" من وراء الأفق البعيد، ويدك بمعوله الحديدي تلك الأعمدة والأصنام فيجعلها ركامًا، ثم يُلقي بها في غياهب المجهول.

إن كل روح حُرة منطلقة تسعى لسبر أغوار ذاتها، وترنو دائمًا لاكتشاف المعنى من وجودها، والوقوف على شاطئ المعرفة والخلود، لا بد لها أن تستيقظ يومًا مهما طال بها الزمن؛ لتحلق في سماء التحرر والانعتاق من سلطة الموروث، وتخترق سحب الأوهام؛ لتحلق في ذلك الأفق البعيد، حيث الوجود الإنساني المُتميِّز الذي يتربع على عرش الأبدية، وينسجم مع هذا النظام الكوني الرائع والفريد.

فطُوبى لكل نفسٍ مُتحرِّرة تعشق الحياة، وتتخذ من التساؤل والحيرة نبراسًا للوصول إلى ذلك الصوت العميق الذي يهتفُ داخل كل فرد فينا، ذلك الصوت الداخلي الذي يهتفُ منذ الأزل الذي ينادي من الغيب غفاة البشر.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يبدو أن الطبيعة الغناءة
وجمال الروح الحقيقى له تدور
فى هذا العبير المنبثق من هذة
الروح الأليفة الحرة
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

عندما يكون داخل الانسان روح جميلة ، ينبع منها الفن والسلام
أضف ردا

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة