أدام النظر إلى جسده وهو مسجى على فراشه وظل يتأمله كثيرًا، وكأنه يراه أول مرة، متعجبًا ومتسائلًا:
هل حقًّا كانت روحي تسكن ذلك الجسد الساكن أمامي بلا حراك؟ يا لها من لحظات عصيبة! كيف انفصل هذا عن ذاك؟ لقد كنا تجسيدًا لشيء واحد، أما الآن فقد صار كل منا إلى غاية مختلفة تمامًا؛ فهو في طريقه إلى أديم الأرض، وأنا هنا أنتظر بدء الانتقال إلى عالمي الأثيري المذهل الذي أراه من مكاني الآن.
ولكن لا يزال يوجد حنين يشدني إليه على الرغم من شعوري طوال سنوات عمري التي مضت على هذه الأرض بأنني كنت حبيس نفسي داخل هذا الجسد، مقيدًا بكل شيء مادي خانق؛ فقد كان يجذبني إليه دومًا حتى لا أتركه، ربما لأنه كان يعلم أنه بدوني لا قيمة له فمصيره التراب والعودة إلى أديم الأرض.
بل ربما هذا الحنين ليس لفراقه هو، ولكن هو حنين لفراق أحبتي أصحاب الأرواح الطيبة الذين لا يزالون ساكني تلك الأجساد على تلك البركة الطينية التي ستكون حاجزًا بيني وبينهم في الاتصال، فقد اختلف عالمي الآن عن عالمهم الذي لا يزالون يعيشون فيه.
إن عالمي الأثيري الذي أراه الآن أوسع لي وأبقى، فهو عالم مختلف تمامًا، عالم يذهل عقلك، عالم به سعة إلى ما لا نهاية، عالم به سعادة، وإحساس يختلج الروح بمشاعر جديدة يستحيل أن تصفها أقلام الدنيا.
إنك تستنشق عطورًا لم تعهدها أنفاسك من قبل، تلك الأنفاس التي كان يختنقها ويحبسها ذلك الجسد ويجذبها جذبًا حتى تخلد معه في طين الأرض فتغوص فيه أكثر فأكثر حتى تظن، بل يجعلها تؤمن، أنها بدونه قد تفنى، في حين أنه هو من كان يعمل على فنائها داخل هذا العالم المادي الخانق الذي يغلفه الخوف والقلق والاضطراب بفعل الشرور التي تسكنها هذه الأجساد فتشعل الحروب والصراعات وتراق الدماء.
كل هذا من أجل نهم الشهوات التي تغلغلت واستقرت داخل تلك الأجساد، فتزيد من نهمها فتتكالب على حطام الدنيا فتجمعه وتزينه لنفسها أملًا في وهم الخلود الأبدي على تلك البركة الطينية التي لا ترتوي إلا بإراقة الدماء، فتزيد من وحلها وعفونتها على الرغم من كل ما تتجمل به من زينة فانية تخفي وجهها القبيح. وها أنا الآن أراها على حقيقتها، فقد انكشف الغطاء وزالت الحجب عنها.
إن الخلود الحقيقي أراه الآن بل أستشعره في كل شيء حولي، فها أنا أرى أحبائي الذين ذهبوا إلى عالمهم الأثيري من قبلي مقبلين عليَّ، أرى ابتسامتهم تعلو وجوههم النورانية، وأشم رائحتهم العطرة، فلكل منهم عطره الخاص الذي يفوح منه وكأنك في حديقة من الزهور، ولكن أي زهور هذه التي يصعب عليك وصفها، فلكل واحد منهم طاقة من النور تحيط به وتختلف مساحتها عن الآخر.
إنهم يهنئونني برحلة الخلاص من هذا العالم الدنيوي المقيت. كنت لا أزال أقف أمام جسدي أتأمله وهم يدعونني لتركه والرحيل معهم حتى لا يجذب روحي إليه مرة أخرى فأخلد إلى طين الأرض كما كنت من قبل.
يا إلهي ما أروع وجمال تلك الأرواح النورانية التي جاءت من عالمها الأثيري تطمئنني وتهدئ من روعي، كانت تبشرني بالخير والسعادة.
يا لها من لحظات مذهلة، لكن ما كان يهدئ من روعي هو رؤية أحبائي الذين سبقوني إلى ذلك العالم الأثيري. كان لقاءً غير مسبوق، فرحة وسعادة وإشراقة لم أعهدها في الوجوه من قبل، كان الجميع يرحب بي ويدعوني للضيافة لديه.
وجدتني أتحرك معهم من تلقاء نفسي، أتأمل ذلك العالم الجديد في ذهول، وتذكرت حينما وقعت عيني على الدنيا أول مرة، ولكن الأمر هنا مختلف، فما تراه وتسمعه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أي جمال هذا وأي روعة تلك، وأي أنوار تشع من هذه الوجوه المتلألئة، والسعادة تغمر الجميع، ومخلوقات لم تعهدها عينك من قبل تُقرِئك السلام وتبشرك بالخلود.
فعلى الرغم من صعوبة المعراج، لكن كل من حولك يبشرك ويطمئنك ويرحب بك، وها هي رفيقة دربي وحب عمري تناديني بكنيتي التي كانت تناديني بها في الدنيا.
الإحساس لا يوصف، لم أخطُ إليها ولكن كنت أطير إليها، هذا ليس مجرد إحساس إنه واقع أعيشه. احتضنتها وتأملتها، كانت تضحك وتضحك، إحساسي من الداخل اختلف عن لقاء الدنيا، فلقاء الدنيا بعد الفراق يصحبه بكاء ودموع، أما هنا فلا بكاء ولا دموع ولا نصب ولا حزن، إنها السعادة تسري في روحك كلها، إنها البشرى بالفوز العظيم والعفو من الله.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.