جميل أن يحقق الفرد منا أحلامه لترى النور وهو ما فتئ ينعم بصحة جيدة وروح مرحة وأفكار نيرة ليتسنى له قضاء باقي أيامه في جوٍّ من المتعة والراحة والبحث والاكتشاف والسفر والاستقرار.
مع أمل تحقيق ذلك على أرض الواقع كلُّ ما كان يومًا خططًا أو برامج تتعلق بمسار يهدف إلى استقرار ذاك النشاط الفكري والبدني الذي كان يزاوله قبل أن يتقاعد.
ويصبحَ من الذين لم يعد أحد يحاسبهم كيف يقضون جل أوقاتهم، أو يحثهم على تنفيذ أعمال هم في غنى عنها، ولا هم قادرون أيضًا على فعل ما كان واجبًا عليهم فعله في السابق.
والملاحظ أن بعضًا ممن أتموا واجباتهم اتجاه بلدهم أكانوا مدنيين أم عسكريين تجدهم منهوكي القوى الجسدية والفكرية، فقد اجتمعت العلل فيهم إلى حد العجز عند بعضهم.
وآخرين سئموا مرضهم المزمن رغم تناولهم أدويتهم دائمًا لكن دون جدوى، ومنهم من قضى نحبه قبل أن يطفئ شمعة ميلاده الستين.
فما بالك بالذين وجب عليهم أن يتحملوا سنوات أخرى وهم لا يزالون يعملون رغم أنفهم بعد السن القانوني للتقاعد، وبعضهم واحسرتاه عليهم فلا معاش تقاعد لهم.
ما العمل؟ وما سبل الخلاص من مثل هذه القوانين الوضعية التي تستنزف جل طاقات كل فرد مساهم في حركة دوران عجلة تقدم البلاد والعباد دون رحمة ولا حق في بعض الأحيان لأن لها سمة العبودية واستغلال النفوذ أحيانًا أخرى؟
رغم مضي سنوات من عمرها لا تزال تجد أناسًا مريضة أنفسهم بالجشع وحبهم امتلاك حرية الآخرين، فصاروا يتمتعون برؤية عمال تحت إمرتهم وكأنهم أسياد دون غيرهم؛ لأن شعارهم الأسمى" إنجاز المهمة أولًا " بواسطتك أو بغيرك لا يهم.
الأهم لديهم هو نتيجة العمل المطلوب منذ أن تنخرط في دوامة العمل لديهم إلى يوم إيقافك تحت بند من بنود العقد الذي يربط العامل بالمشغل، ومع تسليمك وثيقة تسريحه كعبد أعتقت رقبته من لدن سيده...
يا له من إحساس قد لا يُنسى رغم أن بعضهم يرى في هذه الحالة استرجاعًا لحريته المغتصبة بعد عقود من الزمن.
لكن هيهات، لأنه ولو ملك استقلاليته الذاتية، باتت صحته لا تسمح له بعدة أعمال أو متاعب حياتية أخرى، ثم إنه قد لا يسعه إلا أن يمارس حياته الجديدة بكل حرص وانتباه.
اقرأ أيضًا خاطرة "لما لا؟".. خواطر وجدانية
وكذا وجب عليه أن يحتاط من مضاعفات جانبية قد تنتج عن بعض حركاته أو ممارسته اليومية، وأن يحافظ على توازن صحة بدنه، وألّا يجهد نفسه في ممارسته لأي رياضة مهما كان نوعها، أو لأي عمل آخر مهما كان مرغمًا على فعل ذلك.
أضف إلى ذلك كيفية جعل أسلوب حياته يتغير مع توالي الأيام إلى أن يجد ذاك التناغم ما بين المعيش اليومي وضرورة البحث عن إيقاع جديد لها كيلا يحس بذاك الفراغ القاتل، أو ذاك العمل الذي فرض عليه لتلبية بعض المآرب الضرورية أو بالأحرى لسد حاجيات جانبية أخرى، بعمل ثانوي يكون فيه صاحبنا مكرهًا لا بطلًا، وللضرورة أحكام.
لذلك وجب على من نزل ضيفًا على عالم التقاعد أن يسارع إلى إعادة جدولة نمط حياته الجديدة، وذلك بعد استعداد نفسي كاف لترتيب وقته وكأنه سيخوض اختبار مباراة توظيف.
إلا أنه في هذه التجربة يجب أن يفوز على نفسه لكي يوظفها كما يحلو له، وليكون لها سندًا كلما كان ذلك ممكنًا، وأن يجعل من نفسه حاكمًا حليمًا، ومحكومًا حكيمًا، جاعلًا قدر المستطاع من مشروعه حلمًا لن يتحقق إلا بإرادة سديدة ومثابرة جادة في بلوغ مراده المنشود، ألا وهو ملء فراغ وقته بما يرضي الله أولًا، ويرضيه عن قناعة ثانية.
غير مقصرٍ في بلوغ أهدافه المبرمجة أو أن يكون بخيلًا في تلبية رغباته الخاصة مع احترام خصوصية الآخر، وكذا القيام بواجباته اتجاه أفراد محيطه المقربين بصفة خاصة، ثم اتجاه مجتمعه كذلك، ليجني بالتالي من تجربته هاته كل خير ومتعة.
ولأن النية أصدق من العمل، فكل من نفسه مفعمة بالحب والمحبة، لن يخيب أملها في أن تتلقى مقابل كل ما زرعت بشرط أن تكون بذورها صالحة ومختارة بسخاء وعناية.
إذ لا ريب أن محصولها سيكون وافرًا وقيمته ثمينة، إن ظل توزيع خيراتها بالقسط، وسار على درب القناعة أولًا، ثم ليركب على جناح الطموح الجاد في فضاء المجد والطمأنينة في المرحلة القادمة من عمره.
قطعًا إن تُرجمت هذه النظرية على أرض الواقع بكل حذافيرها قلبًا وقالبًا عادت على كل من اختار هاته الطريقة المثالية إلى حدٍّ ما طبعًا بالخير عليه إن هو اتبع خارطة طريق مبسطة، وهادفة، ولم يزغ عنها، أوصلته لا محالة إلى غايته ولو بعد جهد واجتهاد، لإسعاد نفسه وكذا ذويه.
ثم إنه قد يجني بعد هذا الإنجاز فخرًا لا مثيل له لا على المستوى النفسي وحسب، وإنما المادي منه كذلك بشرط وجود من يدعمه في شروعه بمحاولات أخرى أجمل وأمتع من سابقاتها.
وهذا الشرط يتوقف مبدئيًا على ما بجعبته؛ أي إن الكل مرهونٌ بالشخص وما يود من محاولته تلك، فإن كان ذا مروءة وصل، وإن لم يكن صاحبًا لها تعثر، ووجدتُ تجارب عدة أبانت صحة ذلك عبر ما سُجِّل في مراجع التاريخ الإنساني وهكذا.
فما على صاحبنا إلا أن يستعد لمغامرة تلو أخرى، والإقدام على استغلال وقته فيما يجعل من حياته بطلًا بعدما لم يعد له أي دور ليتبعه داخل منظومته السالفة؛ لهذا فهو الآن قد أصبح ذا طموح أقوى، ورصيد معرفي قيم.
وكذا قد اكتسب حكمًا سديدة من خلال تجاربه ومحصول تكويناته؛ أي إنه بات يرى نفسه كمعلم أو كحرفي أو كفنان، ولم لا؟
فهو كعالم متمكن من الميدان الذي اختاره طوعًا لا مرغمًا؛ لأنه صار يتمتع بكل حرية التلقين وحرية في التفكير والتدبير أو التعبير، وحرية التجسيد كفرصة للخلق والإبداع ما يُمكِّن المعنيّ بالأمر من أن ينشط عقله ليصوغ الخام ويحوّله إلى تحفة.
ولينفخ بنفحة من روحه داخل قطعة جماد فتتحول إلى منتوج ذي قيمة ومنفعة، إنها عبقرية الفاعل حينما يخلق المفعول به، فيأمره بأن يمتثل لفعل معين هو خالقه، قد يكون حِرفِيًّا أو مهندسًا، وقد يكون فنانًا أو عالمًا، وقد يكون أميًّا فيصبح أستاذًا في مادة من المواد والأمثلة كثيرة.
اقرأ أيضًا خاطرة "ما يناسِبُني وما لا يناسِبُني".. خواطر وجدانية
كلنا قد نتحسر على ما فات من عمرنا خصوصًا من أجل تلك الأوقات التي قضيناها ونحن نتخبط خبط عشواء في أمور كنا نخالها كما كنا نراها.
لكن هيهات، فقد كنا بكل عفوية نحكم على الأشياء من خلال مظهرها وحسب، والراجح أنه كان علينا أن نحسبها عن كثب، قبل أن ننوي البث في شأنها أكثر من مرة وهكذا.
فمن الأخطاء قد نتعلم كذلك، فنتذكر حينما كنا نغضب أو عندما كنا نُحرم من أشياء نراها من حقنا كبقية البشر، وكذا لا نرضى لأنفسنا مذلة الزمن، كمراحل ظلم أو فقر أو جهل أو حرب أو مرض مزمن؛ لأنها كانت حواجز ومعيقات كان لا بد أن تسقط.
وكان علينا السير قدمًا إلى وقتنا هذا رغم كل الظروف والحالات العصيبة التي مررنا بها، كذا مررنا بمواقف وأوضاع أثرت في أنفسنا دون شك فجعلت الأنا تتزعزع لقوة الصدمة حينها، ليكون قدرنا بعدها إما أن نصبح أكثر صمودًا ضد أمواج الحياة ومتطلباتها أو أن نمسي أضعف مما كنا عليه.
فينقلب الوضع رأسا على عقب، وهذا ما لا يتمناه أحدٌ؛ لأنه قد لا يسعنا أن نقاوم، بل قد نستسلم لكل مطبات الحياة بكل سهولة؛ لأن أساس كينونتنا قد صار هشًّا، وقابلًا للدك من الطرف الآخر رغم أنفنا ما يجعل الطبيعة البشرية فينا تتغذى على ما يوجد في محيطها مهما كان الثمن، ومهما كلفها الأمر.
فتتفاعل مع ما اكتسبته على مدى أجيال من قوة التحدي في وجه أي طارئ كيفما كان لونه أو هالاته أو أطيافه، فتتكون لديها ثقافة ما وهوية ما.
وبالتالي، سوف تنتمي إلى حركة حديثة متميزة بنوع من التجديد عما عهدناه، وذلك لمدة معينة، ثم تأتي موجة أخرى فيغلب طابعها على ما سلف وهكذا.
اقرأ أيضًا خاطرة "العبث في رفوف النسيان".. خواطر وجدانية
أما مراحلُ الظواهر الاجتماعية بما تحويه من مفاهيم ونظريات وتداعيات الاختراعات الحديثة وتلك الاكتشافات العجيبة أحيانًا سيكون لها استمرارية في التجاذب ما بين الأصيل والحديث إلى ما لا نهاية، وتضحي محنة صاحبنا المتقاعد في أنه قد ينكسر عمود شراع أحلامه جراء قوة صدمات الزمن بعد سن التقاعد.
وهذا قد يتجلى في قلة حيلته أو عدم تهيُّئه لمثل هاته المهام التي فرضت عليه، كأن يمارس حياته كما عهد، كما أن رصيده المادي قد يكون زهيدًا لبناء مشاريعه الصغيرة، أو ربما لأن حالته الصحية لا تسمح له بذلك.
وغيرها من حيثيات معقولة لم يكن يملك استعدادًا كافيًا لها بقدر أمنياته وطموحاته منذ أن فكر في ذلك أول الأمر حين خطط لتنفيذ برامجه الخاصة حتى لا يتقاعس، فتتبدد أحلامه مع تقدمه في السن.
وربما من شدة الوهن الذي قد يصيبه بعدما تخلصَ من دوامة العمل الذي كان يعمله لحساب غيره.
أما الآن وقد بات حرًا طليقًا أنهكته أفكاره المتضاربة في خلق جو متاح لإنشاء ما كان يبرمج له من قبل، لهذا وجب عليه أن يأخذ نفسًا عميقًا، وأن يلجا إلى أسلوب الاسترخاء والتأمل فيما ينوي القيام به مستنجدًا بكل الوسائل التي قد تساعده لبلوغ مراده المرسوم.
وكذا يجب أن يتأنى في تقرير مصير هدفه، حتى يتسنى له الظرف المناسب والشروط الموضوعية في المكان والزمن المحدودين كذلك.
فرضًا لو أن صاحبنا أصبح يلامس عن كثب بوادر مشروعه، وصار مهتمًا أكثر بما قد ينتج عن هذه التجربة، وسيصبح ملتزمًا بكثير من العمل والتضحية من أجل أن تأتي أكلها منذ الوهلة الأولى.
بل وجب عليه أن يواصل مسيرته باستماتة ونزاهة وصبر وبروح مرحة مع ليونة في التدبير، لكي يستطيع حكيمنا الجديد أن يتذوق طعم كفاحه، ولكي يتمكن من أن يأخذ مكانته وقيمته كما رسم لها ذلك من قبل.
وهكذا يمكن لصاحبنا أن يحتفل بنجاح إنجازه، وأن يجني أول ثمرات جهوده ومثابرته، فيستحق التنويه والتشجيع لما قدمه لنفسه أولًا، ثم لغيره ثانيًا كمثلٍ إيجابي لإنسان ذي عزيمة وإرادة تفوقت على سنه وظروفه الخاصة، وبهذا يمكن أن ننعته بأنه بطل مسلسل حياته وأن نجمه قد سطع...
هو سؤال قد يبدو محيرًا لأول وهلة، لكن سرعان ما نستجمع أنفاسنا لنكتشف أنها مسألة غير مطروحة علينا بإلحاح، على الأقل في الوقت الراهن، وبالتالي قد لا نهتم بالموضوع كما يجب، فنتوارى عن الاهتمام به وكأننا لسنا معنيين بالأمر البتة.
لهذا وجب على من لحقه زمن التقاعد ألا يسقط في فخ الخمول، أو أن يصبح ضحية أسلوب عتيق لتدبير مساره؛ لأنه وبكل موضوعية ليس كل من تقاعد صار عالة على نفسه أو على غيره.
وليس من حق أي كائن أن ينظر إليه وكأنه أقل شأنًا أو منزلة، بل إنه نفس الشخص الذي كان ولا يزال يبحث عن حريته المغتصبة منذ أن وافق على انخراطه بالقطاع الذي كان يعمل به، والذي صار من ماضيه البعيد.
اقرأ أيضًا
خواطر جميلة
استسمح سيدتي عن تاخيري
في الرد ...اشكرك كثيرا و اتمنى لك التوفيق فيما تقدمينه من مواضيع مختلفة و قيمة..❤
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.