كلما ذهبتُ إلى مصلحة حكومية أخذتُ رقمًا للانتظار، ومر بخاطري ذكريات الانتظار والملل، التي عاصرتها وكابدتها في عملي، الذي هو مبني أساسًا على الانتظار، وتذكرتُ مسرحية في انتظار جودو التي كتبها الكاتب الإيرلندي "صمويل بيكت"، وهي تدور حول شخصين "فلاديمير" "واستراجون" ينتظران شخصًا يدعى "چودو" لا يأتي أبدًا، ويتم استهلاك الوقت في حوارات بينهما ولا يأتي "جودو" مطلقًا إلى أن تنتهي المسرحية ولا نعرف من هو "جودو" .
وفي ظني أن القطار أفضل من "جودو" على سبيل السخرية من عدم الالتزام بالمواعيد، فالقول المشهور أن يتأخر القطار أفضل من أن لا يأتي، والأفضلية هنا في الالتزام بالمواعيد، وتنتمي تلك المسرحية إلى مسرح العبث السائد بعد الحرب العالمية الثانية، قاتل الله السياسة فكم أفرزت من أحوال جديدة في الفن والأدب والاقتصاد، بعضها جيد وبعضها رديء، وأصعب شيء في الانتظار هو الترقب والقلق الذي مع الوقت يذهب ويحل محله سلام داخلي وذلك بسبب التعود والذي أصبح معه الانتظار من العادات اليومية لشيوع ثقافة الزحام الذي تضيع معه آدمية الإنسان، فلا بد لك من الانتظار حتى يأتي دورك.
لماذا يكره الناس الانتظار؟
المشكلة تنبع أن يتجاوز أحدهم دورك في قائمة المنتظرين وهو ما لا يقبله أحد، ومن هنا أصبح الانتظار مقرونًا بعدم العدالة التي تولد غصة لها مرارة شديدة وريبة ممن ينظم قائمة المنتظرين.
ماذا تعلمت من الانتظار؟
الانتظار يعلم النفس السوية الصبر والحلم وقد يدفعها إلى التأمل، ودائمًا من ينتظر يسير للأمام، ففي زحام الشوارع وقت الذروة لا تملك إلا أن تسير بعربتك في نظام الشارع المرسوم لك ولغيرك ولا تستطيع الخروج منه منتظرًا الفرج، ومن أفضل الأوقات لشغل النفس بالهواية هو وقت الانتظار فالقراءة وسماع الموسيقا تنشط في أوقات الانتظار.
ثنائية الرؤية للانتظار
الانتظار كغيره من الأشياء المفروضة على الإنسان، قد يراها البعض سيئة وقد يراها الآخرون جميلة، فالانتظار عند المحبين شوق وعند غيرهم قد يصل إلى الأرق والعذاب، ومن أجمل الأقوال التي لخصت الحياة كلها "الحياة هي انتقال من انتظار إلى انتظار، يعيش الإنسان بين انتظارين، انتظار أن تحلو له الحياة، وانتظار أن يحن عليه الموت."
ضريبة المدنية الحديثة
المدنية الحديثة لها ضريبة تفرضها على الناس فالانتظار هو إحدى الضرائب التي يدفعها الإنسان نتيجة المدنية الحديثة التي تحاول جاهدة توفير الرفاهية لأفرادها مما شكل إقبالًا من بني البشر على تلك الرفاهية، وجعلته يبحث عنها ويدفع الغالي والنفيس في سبيلها، بل ويحارب من أجلها ويتحمل أعراضها الجانبية، وكلما زادت الرفاهية كان انتظارك لقطف ثمارها أطول، فنسمع أن الناس تنتظر في إحدى المدن الأمريكية بالأيام لأخذ نسخة لهم من أحد الهواتف المحمولة حديثة الإصدار.
وهكذا صنع الإنسان رفاهيته وغلفها بالانتظار وراء الانتظار حتى يزهد ما فيما يقدم له من رفاهية، ويتساوى عنده الغث والثمين، فمبدأ باريتو الذي قسم ما يقوم به الإنسان بنسبة أراها عادلة التي يكون فيها 80٪من عمله غير هام مثل الانتظار والسفر والعمل، إلخ، ونسبة 20٪ هو صلب العمل نفسه، أي إن 80٪ من مجمل أعمالك اليومية غير هامة ولا تقدم ولا تؤخر ولكن لا بد من القيام بها لتكملة الصورة فقط.
أجمل أوقات الانتظار.
أجمل أوقات الانتظار هو ذكر الله للحصول على الراحة النفسية وانتظار الصلاة بعد الصلاة.
أكتوبر 5, 2023, 4:21 ص
مقال مفيد ورائع
أكتوبر 5, 2023, 6:47 م
شكرا
وبالتوفيق للجميع
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.