الإبداع ليس انعكاسًا فوتوغرافيًّا للواقع، لكنه انعكاس فني له، بمعنى أن الإبداع يستلهم مادته من الواقع الذي يعيشه كل مبدع، لكنه لا يُصوِّر هذا الواقع إبداعيًّا كما حدث في الحقيقة، بل يُحيله ـ عن طريق القدرة التخيلية ـ إلى رؤى وأفكار قادرة على خلق معانٍ جديدة، أو في الأقل النظر إلى المعاني القديمة ـ الموجودة ـ برؤية مختلفة.
وفي كلا الحالين، يجب أن تُفضي هذه المعاني إلى سياقات فكرية جديدة، تساعد على تطور وعي الذات القارئة، وتحويلها إلى ذات ناقدة، وقادرة على تصحيح السياقات الخاطئة بالمجتمع، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تطور المجتمع في كل مجالاته.
ولأن المبدع حر في اختيار الشكل الذي يرتديه إبداعه، ولأننا ـ قُرَّاء ونُقَّاد ـ لا يجوز لنا إصدار الأحكام القيمية على الإبداع، فإننا لا نستطيع ـ ولا يحق لنا ـ القول بأن هذا صواب، وهذا خطأ. لكننا نستطيع أن نحمل مشاعل الضوء التي تُنير الطريق أمام المبدع، ليرى بعينيه الطريق الذي يجب أن يسير فيه. فَفَيْصَل الرؤية في كل إبداع قيمتان: أولهما حجم القيم الإبداعية التي يشتمل عليها، وثانيهما الصدق الفني الذي يحمله.
وهما قيمتان تتنافران تمامًا مع التصوير الفوتوغرافي، الحقيقي، للواقع الذي نهل المبدع منه. فلا إبداع بلا قدرة على التخيل تستطيع أن تسمو به، وتُحيل الواقع الذي انطلق منه إلى سُحب ممتلئة بالمطر والغيث.
وما يلجأ إليه بعض المبدعين من استدعاء شخصيات حقيقية من محيطهم، تعارفوا عليها، وكشفوا خباياها من جوانب حياتية عدة، واستغلال هذه التفاصيل في أعمالهم الإبداعية، ليس من الإبداع في شيء، ما دام جاء ذلك من قبيل الاستسهال وعدم القدرة على الخلق، أو من قبيل التلسين، أو كانت غايته الفضيحة.
فالاستسهال والجفاف التخيلي ضد الإبداع من الأساس، وسياقا التلسين والفضيحة سياقان قديمان، يعمل الإبداع على انتفائهما من المجتمع، لخلق سياقات بديلة، وجديدة، وقادرة على نقل المجتمع إلى الأمام، وليس العودة به إلى عتمة الماضي القديم، المتوارث.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.