سَكَنتِ الطائرةُ على أرضِ الوطن مِصر بعدَ غُربةِ ثَلاثِ سَنوات، اليومَ سَتَعودُ إلى حيَاتِها الهادئة البسيطة مع أهلِها وأصدِقائها التي افتَقدتْها في بلادِ غُربتها، مرَّت عليها ليالٍ طِوالٌ تَشكو فيهن ألمَ الوِحدة وتتمنى لو تعَودُ إلى وطنها بأمانٍ كما يَعودُ الطيرُ إلى عُشِه آمنًا بعدَ طول عناءٍ لتسكُنَ.
رفعت رأسها ناظرةً إلى السماء، والدموع تترقرقُ في عينيها، لا تعرف كيفَ ستبدأ من جديد، وهل تجد بداية من في مثلِ وضعها، هل ستقوى على مواجهةِ الحياة أم أن قواها جميعُها قد خارت.
هل ستستعيدُ روحُها المُفعمة بالحياة أم ستبقى جسدًا يحيا لأن الحياة فرض، وليس لأنها ساحة معركةٍ عنوانُها الأمل، نظرت أمامها تبحث في الناس حولها عن أي شخصٍ تنتمي لهُ.
ربما تبحثُ عن نفسها التي تركتها في هذا المكان قبل سنوات، مسحت دموعها بقوةٍ عَهِدتها بفضل الألم، ومشت في خُطا ثابتة واثقة محدثة نفسها تبثُ القوة والطمأنينة في قلبها المُرتجف "أنتِ قوية يا حياة، ما من داعٍ للخوف"، "وهل تؤمنين بأنه لا داعي للخوف يا حياة" كان هذا رد مخاوفها عليها، ولكنها تجاهلتها مُستمرةً في طريقها كما تستمرُ في حياتها.
أخيرًا التقت القلوب وتلاقت الأعين في نظراتٍ دامعة، ها هي أسرتها تقف أمامها من جديد بعدما ظنت أنها حتمًا ستموتُ وحدها في غربتها، وها هم أصدقاؤها الذين اشتاقت لوجودِهم حد السماء، لم تستطع الصمود أكثر من ذلك، فيكفيها اليوم هذا القدر من العاطفة المتفاوتة التي تغمرُها، فانهارت باكيةً واندفعت إليها أمها أيضًا باكية.
- فاطمة: يا نور عَيني يا حياة، لقد مِتُّ شوقًا إليكِ يا عُمري...
- حياة: كم اشتقتُ إلى حُضنكِ يا أمي... آه كم اشتقتُ إليكم جميعًا...
تقول عهد بمرح لتُنهي هذا الجو الدرامي...
- اتركي الفتاة يا خالتي، ستقتُلينها حقًا بتشبُثكِ هذا، هل ستهرب؟
- فاطمة: اصمتي يا بنت، لقد ذُبتُ شوقًا لها...
- أنس وهو مقبلٌ على أخته وعيناه تُدمع من أثر الموقف...
- كُلنا ذُبنا شوقًا لها يا أمي، فهي حياتُنا كلُّنا...
كل هذه العاطفة تنكأُ جرحها الذي لم ولن يلتئم، فَكفي بالله عليك، ضمها إليه، وبكت كما لم تبكِ من قبل، فها هي الآن في حضنِ أخيها وأبيها وسندِها في هذه الحياة.
دائمًا كانت تلجأُ إليه وتحتمي فيه، وتُطمئن قلبها بضمةٍ منه، اليوم عاد لها ذاك الشعور، وكأنها طفلة أرهقتها الحياة، فعادت تبكي في حضنِ أبيها من شدةِ ألمٍ عَصفَ بها، وهي تقف في انتظار هدية القدر، فإذ بها طلقةُ الموت التي جعلتها جثةً هامده مسلوبة الأحلام والآمال.
- أنس: كفي يا صغيرة، الآن نحنُ معًا...
- لا يا أنس، لسنا معًا، لقد ذهبت حياة في طريق لا عودة منه...
كم تمنت لو نطقت بهذه العبارة وشكت له ألمًا يُمزقها، ولكن كلها أمنيات، مسحت دموعها بابتسامة، وبدأت بالسلام علي الجميع ثم ذهبوا إلى المنزل معًا...
ينظرُ إلى البحرِ بأمواجِه الهادرة، والشمس التي أوشكت على الغروب شاردًا في حاله، فقد عاد منذُ ثلاثةِ أشهر إلى الوطن، وعاشَ مع والدته التي افترقت عن والده فيما يُقارب عشرين عامًا، تركَ حياته السابقة وعاد إلى وطن أمه ليبدأ حياةً جديدة بِدينٍ جديد!
- مالك: زين، هيا يا صاح، لقد أنهيت عملي...
- زين: حسنًا سيدي مالك...
وهو يكِزه في كَتفه بخفة
- ما هذه الرسمية يا ولد، أنا مالك فقط...
- زين: حقًا لا أعرف ماذا أقولُ لكَ يا مالك، أنا مُمتن لكِل ما فعلته معي، جزاكَ الله عني كل خير...
- مالك: أنتَ شخصٌ عظيم يا زين، فمن يترك ما تركتَه لأجل الله، يستحقُ كل خير...
- زين بابتسامة وديعة...
- هيا نذهب لصلاة المغرب، ثم نعودُ إلى المكتب...
- مالك: هل تعرف من هو آدم عمران...
- زين: أحد مُوكلِيك؟
- مالك: إنه life coach مشهورٌ على مواقع التواصل الاجتماعي، يُقدم المشورة للناس، ويُشجعهم على الأمور المُتعلقة بالمهن والحياة عامةً، لديه صفحة على face book بها ما يزيد عن مليون مُتابع، يظهر في البرامج المعروفة، فَهو يعرف كيف يُسوّق لنفسه جيدًا...
- زين: وما مشكلته؟
- مالك: أحد عملائه البؤساء متورط في قضيةٍ ما، ويريد مني أن أتولى الأمر، بالإضافة إلى أنه صديقٌ عزيز...
- زين: يبدو أنه شخصٌ خيّرٌ، لا يختلف عنك يا مالك...
- مالك: له دورة تدريبية تتحدث عن أساسيات الدين الإسلامي، ما رأيك أن تتقدم لها، سيسعدُ بانضمامِك...
- زين: كم تكلفتها؟ ولا تقل لا تهتم، واترك الأمر لي...
- مالك ضاحكًا: هل تراني سأنفقُ عليكَ يا صغير، أنا لديّ التزامات...
- زين بامتعاض: زاد الله من التزامَاتك سيد مالك رشوان، كم تكلفة الدورة إذن؟
- سأعرف منه كل التفاصيل وأخبرك...
وصلا المسجدِ وذهب كلاهما للصلاة، "الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"...
بعد أن أنهت أداءَ صلاتها...
- نبض: أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام...
وإذ بصوت حاسوبها الخاص يُصدر إشعارًا، فَقامت لتتفحصه، فوجدته ردًا من العمل الذي قدمتْ له، فكانَ ردُّهم بالقبول، ولكن مع آخر شخص تمنت أن تعملَ مَعه...
- نبض: يا ألله، ما هذه المُصيبة، عندما أجدُ عملًا أخيرًا يكونُ معه هو...
أخذت هاتفها واتصلت بإحدى صديقاتها...
- يقين، يقين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
- نبض: مصيبة يا يقين، مصيبة وقعت فوق رأسي...
- يقين: خَيرًا يا فتاة؟ ماذا حدث؟
- نبض: أتاني رد من العمل وقد قبلت بفضل الله، ولكن..
- يقين: ولكن ماذا؟
- نبض: هو، المحاضرات سَتُقدم معهُ، هو يا يقين...
- يقين: هل تقصدين؟
- نبض مقاطعة: نعم، هو من أقصده...
- يقين: وماذا تنوين؟ هل ستكملين في هذا العمل؟
- نبض: أنا لا أعرف حقًا، لا أعرف، أنتِ تعلمين كم أنا بحاجة إلى هذا العمل، فَوضعُ أبي المادي لم يعد يحتمل أن يُنفق عليّ أنا وإخوتي، وأيضًا أنا بحاجةٍ إلى أن أُثبت نفسي في مجالِ عملي وأكتسب مزيدًا من الخبرات...
- يقين: وأيضًا يا نبض، لا يُمكنكِ أن تعملي في نفس المكان مع شخصٍ تعلمين أن قلبكِ يريده، وأنكِ لن تملكي زمامَ أمرُكِ أمامُه وستُفتنين في دينك، وتخسرين قلبك...
- نبض: سأفعل يا يقين، سأتخطاه، لن تقف الحياةُ عليه، سأملُك زمامَ قلبي، ولن أُفتن في ديني ونفسي، أعدكِ يقين...
قالتها بخوفٍ...
- حقيقي، إذن لماذا تقولين إنها مصيبة طالما أن الأمر بهذه البساطة...
- نبض بوجع: هو ليس بهين يا يقين، أتفقُ معكِ، ولكن ماذا عساي أفعل؟ هذه فرصة لن تُعوض، وأنا لم أعد أحتمل كوني عبئًا زائدًا على أبي؛ لذا سأكونُ أقوى وأواجه شيطانَ مشاعري...
- يقين: ثبتكِ الله يا صديقتي، ومُباركٌ لكِ العمل، إن شاء الله خيرًا، لا تقلقي...
- نبض: ماذا فعلتِ مع زوجُكِ المصون؟ هل حددتم موعد الزفاف؟
- يقين: سيادة النقيب لديه مأمورية، لا يمكن الانسحاب منها؛ لذا اتفق مع والدي على أول الشهر المُقبل إن شاء الله...
- نبض: مُبارك يا حبيبتي، أتَمَ اللهُ لكما على خير...
- يقين: وباركَ لكِ في حياتك يا نبض، ويَسَر لكِ أمورِك...
- نبض: يقين، سأغلق معكِ الآن فأمي تُنادي، هيا، أستودعُكِ الله....
السلام عليكم أيها السادة الكرام، ازددتُ شرفًا بحضورِكم، مُحاضرتُنا اليوم عن قيمة الإنسان، يقول عز وجل: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".
كما ورد عن ابن كثير في تفسير هذه الآية :"يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، كقوله تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"؛ أي يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه.
يأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.
"وحملناهم في البر"؛ أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي البحر أيضًا على السفن الكبار والصغار، "ورزقناهم من الطيبات"؛ أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة.
المناظر الحسنة، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.
"وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا"؛ أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون.
نحن نسبّح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالحَ ذرية من خلقتُ بيديَّ كمن قلت له كن فكان"، إذن فَالإنسانُ ذو قيمة لمجردِ كونه من بني آدم.
نجد ما يزيد من قيمة الإنسان كَالمال، وجمال الشكل الخارجي، والسلطة والمنصب، والشهرة، والعلم والشهادة، والثقافة، والمعتقد الديني، والأصل، والزواج للمرأة، والتعدد للرجل.
الإنجاب، ومميزات الطفل، الارتباط بشريك يملك أحد هذه المصادر، سمات أو مهارات أخرى يملكها الشخص"؛ أي إن مصادر الاستحقاق الخارجي هذه لا تعطي الإنسان قيمة، بل تزيد من قيمته، وبدأ آدم عمران باستكمال محاضرته.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.