وقف بعيدًا وهو ينتظر الموكب الذي أتى لأخذ ابنته إلى بيتها الجديد، فقد أصبحت فلذة كبده عروسًا وهي التي كانت البارحة بين يديه حين أعطته الممرضة إياها، وهي تقول له: عليك أن تختار لها اسمًا لكي نقيِّده في الدفتر ونكمل الإجراءات الإدارية، فغدًا يوم عطلة.
وعليك أن تسرع لتكمل المعاملات في الدائرة الإدارية وإلا فإن تأخرت تُسجَّل ابنتك بتاريخ مفترض، فرفع كتفيه وهو يقول لها لا يهم لقد كنت أتوقع أن يكون المولود ولدًا أمّا أنّها بنت... صمت هُنيهة لترد عليه الممرضة قد يجري على يديها الخير كله فهن المؤنسات، فبرزت من شفتيه ابتسامة صفراء تجعل الورد يذبل في عزِّ الرّبيع.
وهو يتذكر ذلك اليوم، فإذا بأحد أبنائه الذكور يقطع عنه حبل ذكرياته ويلمحه، فيهرع إليه ويخبره أن الموكب قد وصل فيدفع ابنه بعصبية ويقول له: اذهب لاستقبالهم، فيلتفت خلفه وهو يمسح تلك العبرات التي سقطت وهو الذي كان الشح يسكن مقلتيه؛ لأنه لم يتعود على ذرف الدموع.
وفجأة يتوقف الموكب أمام الدار فينزل منه أهل العريس يحملون باقات الورد عربون محبة، وعند دخولهم ومكوثهم قليلًا خرجوا مرة أخرى فرحين بعروسهم الجديدة، ليتقدم منها زوجها ماسكًا يدها، أما هي فقد كانت نظراتها تبحث بين الجموع عن أبيها، وفجأة انقبض قلبها وهي تردد في فكرها ترى أين هو والدي؟ وكيف له أن يغادر ولم يسلم علي؟
وهي في تلك الحيرة فإذا هو يطل برأسه من خلف الدار فتستسمح زوجها وتذهب إليه وتعانقه وهي تقول له: ألا تريد أن تراني وأنا أذهب إلى بيتي الجديد؟ فيجهش بالبكاء ويقول لها: سامحيني يا ابنتي، فلم أكن منصفًا معك. لترد عليه: يكفي أنك أبي ولن أجد أبًا حنون غيرك، فأنت من اختارك اللَّه لتكون والدنا لقد سامحتك يا أبي منذ زمن، حينها هدأ وهو يتمنى لها حياة زوجية سعيدة ويوصيها أن تكون نعم المرأة في بيتها الجديد.
وأن تصون نفسها وتراعي الله في زوجها وحياتها الجديدة، لتودعه وتغادر مع الموكب، لكن لم تغادره أفكاره التي اختارت ذلك اليوم بالذات كي تطفو إلى السطح، فقد مكثت طويلًا في القاع والآن حان الوقت لتخرج.
حين افترق الحضور عاد إلى المنزل ليجد أم أولاده جالسة تقلب في ملابس ابنتهما التي تركتها في الخزانة، فهي لم تعد تحتاج إليها الآن، فإذا هو يسأل زوجته هل فعلًا كنت منصفًا مع ابنتنا؟ فترد عليه هي لن تجد أبًا حنونًا مثلك أبدًا، فقط ادعُ الله أن يوفقها في حياتها الجديدة.
وأن تحيا حياة هانئة أما أنا فإني لا أخاف عليها فهي متعلمة ولديها وازع ديني تعرف الصحيح من الخطأ، وتدرك جيدًا حدودها التي سطرها الشرع، والأهم من ذلك فهي بارة بوالديها، فلديها مخزون من دعوات الخير ولن تنفد أبدًا.
فعادت به ذاكرته مرة أخرى إلى سنوات خلت، لكن هذه المرة حين كان طفلًا يعيش تحت كنف والد متسلط لا يقبل رأي أحد داخل المنزل، فقد كانت أوامره مطاعة، ولا يمكن لأحد أن يناقشه أو يجادله في أي موضوع كان، يتذكر حين كان صغيرًا وحين يراه والده يلعب مع أقرانه يمسكه من يديه.
ويدخله عنوة إلى المنزل، ويمنع عنه اللعب بحجة أنه رجل وعليه أن يأخذه معه غدًا إلى وكالته التجارية فهي مهنة الرجال، وهكذا كان يحرمه في كل مرة من اللعب، حتى طُمست طفولته.
ومع مرور الوقت غادر وإلى الأبد ما تبقى من البراءة، فبدأ يحيا حياة ذلك البالغ الذي يرى نفسه رجلًا، وأن الرجال لا يمكن أن تكون لديهم عاطفة أو حنان، فأضحى نسخة من والده حتى أنه يفوقه أحيانًا في تصرفات يعدها المجتمع الذي ينتمي إليه رجولية، فلا يتحدث عن أمه أمام الآخرين ولا يبدي بعض الحنان اتجاهها.
ومع مرور الوقت نفضت والدته يديها منه ولم تعد تبالي، لكنها لا تتوانى في أن تدعو اللَّه في كل صلاة أن يلين قلبه فقساوة القلب من الأمور شديدة الْخَطَر التي لا يلقي لها المرء بالًا لكن عواقبها جد وخيمة.
يتذكر أيضًا يوم فاتحه والده يومًا بزواجه وأن يؤسس أسرة، لكن في الواقع هو لم يأتِ ليسأله أو يأخذ رأيه بل جاء ليحدد معه موعد الزفاف بابنة شريكه في التجارة وكله غبطة؛ لأن تجارتهم ستنتعش وتزدهر، وأنه في السنوات المقبلة سيكون مالك كل شيء وأن زمام تجارتهم سوف تكون بيده.
يتذكر أيضًا أنه لا يحتفظ بأي ذاكرة جميلة من والده حتى إنه لم يناده يومًا بابني، فقط يا ولد، حينها كانت تستهويه هذه العبارة، لكنه مع مرور الوقت أدرك أنها خالية من الحنان، فهي من عمَّقت الهوة بينه وبين أمه التي مدحته يومًا في مناسبة عائلية، ودعته أن يأتي نحوها لتقبله وتعانقه، فاستنكر الأمر وهرب من ذلك المجلس وعاد إلى المنزل جريًا.
ومع مرور الأعوام توفي والداه وبقي هو يصارع الحياة لكن هذه المرة مع امرأة متفهمة جدًّا تدرك حقوقها وواجباتها جيّدًا، فهي المرأة التي اختارها له والده يومًا، وعلى الرغم من زواجهما التقليدي فقد كانت نعم الزوجة تدرك جيدًا أسس الحياة الزوجية والعائلية.
وعلى الرغم من أنها درست في الكتاتيب ولم تبلغ ذلك التعليم المتطور، لكن لها من النباهة ما يجعلها تنافس كثيرًا من المتعلمات، ولذلك فعلى الرغم من أن زوجها صعب المراس، لكنها كانت دائمًا تتضرع لله أن يرزقه لين القلب.
وحين رُزق أول أبنائه وكانت تلك البنت التي أبى أن يسجلها في يوم ولادتها، تركها إلى غاية مرور أربعة أيام إلى أن قيدها خالها في مصلحة الحالة المدنية.
وفي الأخير، وقبل أن نغادر صديقنا ها هو نراه يدخل غرفة ابنته ويجد زوجته تُقلب في ثيابها التي تركتها وراءها، تحمل فستانًا مزركشًا بين يديها وهي تقول له أتتذكر هذا الفستان فقد اشتريته لابنتنا وهي في عمر سبع سنوات، فابتسم ابتسامة لكن هذه المرة ليست صفراء بل كلها بهجة وحياة.
ابتسامة برزت عن تلك التقاسيم المريحة التي طالما اختبأت وراء الموروثات التي كانت تنفي عن الرجل أن يضحك أو يبتسم؛ لأنها تقلل من هيبته، هذه المرة أبانت عن صف أسنانه، وهو يقول لها: كيف لي أن أنساه إنه لغاليتنا وسوف نحتفظ به لمولودها القادم، وأرجو من اللَّه أن تكون فتاة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.