إنها السادسة خريفًا، علَّ هذا الوقت يغريني بالكتابة، في حين تقرر الشمس التخفي -رويدًا رويدًا- مغادرة إياي، ويحين موعد فنجان القهوة الفرنسية بالفانيلا في ذات الوقت. لطالما تغريني الصفحات البيضاء، تنظر إليَّ طوال الوقت تلومني على تركي إياها ناصعةً دون خط قلمي، فتلومني على خبرات لا يستوعبها عقلي ولا يخلو منها، وعلى كل تجربة ضاعت في زخم الحياة، ولم أتمكن من تأريخها، وعلى عدم كتابة ما يدور بخلدي، وما أحاكي به بُنى أفكاري طوال الوقت، ما أنوي وما أتمنى وما أخاف وما لا أقدر على البوح به حتى لنفسي!
كثيرًا ما استوقفني قول عزيز، بطل رواية أحببتك أكثر مما يجب لأثير النشمي: "أنا أكتب لأن واجبي تجاه نفسي أن أفعل". أصحو متذبذبًا، بعضٌ مني يحلق هنا وبعضٌ آخر يبحر هناك... الكتابة تعيد إليَّ ثباتي.
هل تعتقد أن ما يحرضك على الكتابة هو الزمان أو المكان، أم الأحداث، ربما الأشخاص، أو ذلك الضيف العابر؟
هل تكتفي بالإلهام الذي يزورك فقط من حينٍ لآخر؟ أم تختلق مناخًا يناسبك ويستفز أفكارك؟ وما علاقة ذلك بأنواع الذكاءات المختلفة؟
في بعض الأحيان، يوجهك ذكاؤك البيئي، بحبِّك ما تراه من جمال الطبيعة وما تخلفه بداخلك من راحة نفسية وصفاء ذهنٍ. بتأملاتك، تُنتج عديدًا من الخواطر. وتلهمك أيضًا الأحداث من حولك، ويدفعك ذكاؤك العاطفي والاجتماعي دفعًا للتحليل ويستفزك لمزيدٍ من أفكار حرة.
هل اختبرت شعورًا أن يغريك مكان بعينه للكتابة؟ بتحرشه المتعمد بأفكارك، ليتركك لاهثًا وراءها محاولًا ربط لجامها، فينتهز ذكاؤك الوجودي والداخلي ذلك لاختلاق مزيد من التساؤلات. قد يلاعبك ذكاؤك اللغوي ويدفعك لربط المعلومات داخل عقلك وخلق نتاج جديد بمجرد قراءتك لبعضٍ من أفكار ناضجةٍ ثرية. وربما بعد هرولة صباحية ممتعة على النيل أو حول قصرٍ ما، يفاجئك ذكاؤك الجسدي بقدرٍ من تنوعٍ في الأفكار يلوح في الأفق.
كثيرًا ما سمعت وقرأت عن مدى أهمية القراءة، وعن صب جل تأثيرها على عادة الكتابة، قطعًا ستؤتي ثمارها ما إن توليها حبًّا وحنانًا واهتمامًا. الكتابة تفرض علينا واقع مهادنتها في روتينك اليومي فرضًا!
أتذكر بدقة ما كنت أخافه بظهور عادة الكتابة لديَّ للنور التي شقت طريقها عمدًا في مرحلتي الثانوية. بدأ الأمر آنذاك كتنفيس عن ضغط الواقع من دراسةٍ وأمور المراهقين وربما الوحدة أيضًا. جبنت وقتها من هذه الأفكار المبعثرة، ومن فقدان تلك الأوراق أو رؤية أحدهم لها. وكما ذكر الرائع أحمد خالد توفيق: "إن الموضوع طويل ومعقد، لهذا أكتفي بأن أطلب منك ألا تنذهل عندما أخرج ورقة مربعة صغيرة من جيبي وأدون عليها شيئًا، فإذا نسيتها في مكانٍ ما فلا تحاول قراءتها من فضلك وأعدها لي".
هي أثيرك صادق العهد، تلائم تمامًا كل حالاتك: المشتتة وعدم الموضوعية، والملهمة والحيادية وغيرها.
أنتظر... أنتظر بفارغ صبري يومًا ما سأكون قادرة على صياغة ما أشعر به، وأنا على يقين بأن ذات الموضوع الذي أتناوله الآن سيصبح بإذن الله لدي كثير من الأفكار عنه لاحقًا، بأسلوب يمكنني من إعادة صياغته صياغة مختلفة، مضيفةً إليه ما اكتسبته من تجارب.
أتمنى لك، عزيزي القارئ، في كل تجربة قراءة أن تجد ما يمس شغاف قلبك. فلا أسوأ من ندمك على وقتٍ أهدرتَه على تجربة سيئة. وبما أن تجاربنا بالحياة ستظل تعرفنا على أنفسنا، دافعةً إيانا للسعي بمحاولاتٍ ضارية نحو نتيجةٍ مرضية.
وعليه، فنهاية هذا المقال ما زالت قيد الكتابة...
رائع ....احسنتِ
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.