قابلتها في المطار دون ترتيب مسبق، كانت متعجلة فلقد كان النداء الأخير لطائرتها المتجهة إلى القاهرة.
تمنَّيتُ لو أعود إلى موطني مثلها، ولكنها الغربة التي فرضتها ظروف الحياة، أخبرتني أنها حاولت أن تراسلني في لندن ولكن دون جدوى، وحثتني أن أقرأ الرسالة التي وضعتها لي أسفل باب الشقة، أخذت تشير إليَّ وترسم مربعًا ولا أعلم ما الذي تقصده، غير أنني اكتفيت بالابتسامة لها والتلويح لها من بعيد.
استنتجت أن رسالتها لربما تتعلق بشيء يخص الشقق؛ فهي مسؤولة عن التنسيق فيما بين السكان ولها صلة مباشرة بمالك العقار، أو لربما قد انتهت من إعادة تنسيق سطح العقار كما كانت تشرح في اجتماعاتها الخاصة بالسكان، كانت تنتوي أن تجعل من سطح العقار حديقة مبهجة.
وافقناها ودفعنا المبلغ الذي اقترحته لبدء المخطط الذي رسمته نادين بنفسها، عانيت لمدة شهر كامل من الجلبة التي كانت تأتي من السطح جراء التعديلات التي كانت تقوم بها.
لم ينقذني من الضوضاء سوى هذا المؤتمر الذي طُلب مني أن أغطي فعالياته في لندن، وقتها تنفست الصعداء وجهزت حقيبة سفري وغادرت تاركة لها المكان، على أمل أن أعود وقد انتهت الضوضاء والفوضى.
لا تربطني بنادين أي صداقة كنت أراها في المصعد أحيانًا، كنا نتبادل التحية، ذات مرة أخبرتني أنها مصرية ولكني كنت أدرك ذلك مسبقًا فاللهجة مميزة للغاية.
عقب عودتي توجهت إلى شقتي غير أني تذكرت أمر الحديقة، فتركت حقيبتي أمام الشقة وتوجهت إلى السطح لأرى آخر المستجدات. لم أشأ أن أستخدم المصعد؛ فالسطح يعلو شقتي مباشرة.
في طريقي قابلت السيد مراد الأردني، يرتدي ملابس السباحة ومعه عوامة صفراء وبعض البط البلاستيكي الأصفر.
حاولت جاهدة أن أضع سيناريو لهيئة السيد مراد! غير أني فشلت تمامًا، لم أتعجب من السيد مراد بل تعجبت من نفسي فأنا بالأساس كاتبة المحتوى التي من شأنها أن تكتب وتضع القصص لكل شيء، كيف أقف عاجزة عن تفصيل سيناريو لجارٍ يحمل عوامة وبعض البط البلاستيكي الأصفر.
أيعقل أن تكون موهبتي قد اضمحلت عقب عملي في مجال تحرير الأخبار؟ كيف يُعقل هذا!
ولكن لمَ العجب؟ وأنا أغلب الوقت أطالع الشاشات العملاقة لأحرر الأخبار، لقد ذهب حسي الفني إلى غير رجعة وهجرني الإبداع وأنا التي كنت شاعرة لا يشق لها غُبار.
تمنَّيتُ لو عدت أدراجي خلف السيد مراد وقلت فيه أي قصيدة، حتى وإن كانت من باب الغزل، غير أن الكلمات ضاعت تمامًا.
حاولت أن أقنع نفسي بأنني بخير، وأن السيد مراد ليس من النوع الذي تُكتب فيه قصائد الغزل فمن التي ستتغزل بهذا الذي يحمل بطًا أصفر وعوامة بُرتقالية، حاولت تهدئة عقلي وطمأنته لتجنب صوت نحيبه الذي بدأ يعلو.
أخبرته أن العيب ليس مني وإنما من السيد مراد ذاته، أخرج عقلي لسانه لي وطالبني بأن أهجوه بقصيدة بدلًا من التأمل فيه.
رددت على عقلي بأنني مهذبة، ثم مسألة لباس السباحة والبط الأصفر تندرج تحت باب الحرية الشخصية، لا يحق لي هجاء الرجل فلربما ذاع صيت القصيدة وأصبحت تُدرس في المناهج الدراسية، وقتها لن أُسامح نفسي على التشهير بالسيد مراد.
ولكن أحقًا ما يقوله عقلي، هل ذهبت موهبتي الأدبية والشعرية إلى غير رجعة جراء العمل في تحرير نشرات الأخبار؟
حاولت أن أتجاهل إلحاح عقلي وانتصرت عليه؛ لأن دافع الكتابة والشعر غير موجود، ولا يوجد حدث قوي يحرك كلماتي، كما أنني لا تربطني أي قصة عاطفية مع السيد مراد ولا حتى مشاعر كُره أو ازدراء.
فتحت باب السطح فهالني أن رأيت حوض سباحة كبير وبعض المظلات، تبًا لقد تغيرت الخطة تمامًا ووجدت لافتة مفادها أن خمسة أيام في الأسبوع مخصصة للرجال حول حوض السباحة، وأن اليومين الآخرين واحد للصغار والآخر للنساء.
وعلمت أن هذا من ضمن الأيام المخصصة للرجال، هذا ما تيقنت منه عقب رؤيتي لأغلب السكان من الرجال وهم يتمددون حول حوض السباحة.
نزلت وأنا متبرمة فلقد دفعت ثروة طائلة لكي ينعم بعض الكسالى بالجلوس حول حوض السباحة، كتمت غيظي ونزلت آسفة إلى شقتي غير أن الثلاثين قصيدة التي كتبتها في هجاء نادين والرجال من سكان المبنى كانت كفيلة لتبث لي أن موهبتي الأدبية والشعرية على ما يُرام.
دمتم بكل ود.
سبتمبر 3, 2023, 10:36 ص
رائع جدا
سبتمبر 4, 2023, 8:44 م
ما اجمل القصة سيد خشبة..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.