مسكين، فقد والده في سن مبكرة، حرم من نعمة قبل أن تسنح له فرصة الاستمتاع بها، يقولون إنه لن يتأثر لأنه ما يزال طفلاً صغيراً لا يفقه شيئاً، فعالمه يتمحور حول اللعب مع أقرانه، سوف لن يحس بالفراغ لأن عقله وإن كان قد خزن بعض الذكريات فلن يستغرق الأمر الكثير من الوقت لنسيانها، لا داعي لأن نحزن لأجله فهو مجرَّد طفل صغير.
بعد مدة أجبرت الظروف هذا الطفل أن يكبر قبل الأوان، أن يشقى ويكد ليوفر لقمة عيشه هو وباقي إخوته التسع، فالأم مناضلة وأنجبت مناضلين والنضال ليس مرتبطاً بسن، لماذا لم يفكر الناس أن هذا الطفل الذي لا يفقه شيئاً أنه لا زال صغيراً على العمل؟ لأننا نتملص من واجبنا الإنساني متى أردنا ونتحلى به متى شئنا.
اشتغل الطفل لدى أناس راعياً للغنم، كانت عيناه تدمع كلما رأى أقرانه يعيشون سنهم، تحت حماية أب يسخر حياته لضمان راحتهم، لم تكن نظرة التحسر تفارق محياه، لماذا لم يرحم هذا الطفل من قهر الظروف، بل لم يرحم حتى من جور إخوته الكبار الذين كانوا يوبخونه إذا مرض، أو تأخر عن رعي الغنم، ويعاقبونه في بعض الأحيان إذا اختلس بعض الوقت للممارسة حقه الطبيعي في اللعب مع أبناء القبيلة..
لم يمنع كل هذا من أن يكون الطفل حنوناً ومحباً لأمه التي كرستها حياتها وجمالها، لتربية هؤلاء الأطفال، لم تسلك هذه الأم العظيمة طريقاً مختصراً وتتزوج من يوفر لها مستوى عيش كريم، آثرت أن تحارب الصعوبات مع جنودها الصغار التسع، كشرت عن أنيابها في وجه كل معتدٍ على حق أولادها الذين كانوا أعظم هدية من زوجها، وأكبر تحدٍ واختبار من خالقها.
ظلَّ الطفل يمارس المهام الموكلة إليه، من رعي للغنم ، وجمع للحطب، والبحث عن بعض الثمار التي تجود بها أشجار الزيتون واللوز، ولم لا جلب الماء من الآبار للشرب، كان يعتمد على بنيته الضعيفة بسبب صغر سنه، وقلة الغذاء، ويبرز نحله ذاك السروال الكبير والفضفاض الذي يتناوب على ارتدائه وأحد إخوته ، وقميص مزركش أعطته إياه المرأة التي يرعى غنم زوجها عندما رقت لحاله وجسمه، الذي يرتجف في الصباح الباكر.
لم يكن يلقى الطفل ثناء على بسالته بل كان يوبخ من إخوته على أشياء لم يرتكبها كأنهم يعاقبونه على قساوة الحياة، لكن لم يكن ليهتم فابتسامة من أمه تنسيه تعب اليوم والماضي والمستقبل.
كان الأطفال يخضعون لنظام صارم من أم لم يكن هدفها استغلال الأطفال بقدر ما كان همها خلق رجال أشداء ينتقمون من الظروف والناس الشامتين الذين شاهدوا هذه الحرب، التي شنت على أطفال ولم يمدوا يد العون، بل زادوا فوق الجرح ملح؛ بنجاحات تجعلهم قدوة لكل يتيم.
كان كل واحد من اليتامى ملزماً باحترام وقت الأكل وأن يقوم بعملية للموازنة بين قطعة الخبز التي من نصيبه وما جاد به الخالق عليهم من أطباق في اليوم، وكل متأخر أو جائع لا يحترم قانون الأكل لا تقبل منه شكاية..
كان الطفل يقاتل للفوز بأكل أكبر عدد ممكن من اللقيمات التي يسد بها جوعه، تحت أنظار إخوته الغاضبة، لكن من يأبه لذلك المهم ألا يطرق الجوع أبواب معدته لأطول وقت ممكن.
بلغ بعض الأخوات مبلغهم وصاروا أشداء، منهم من فرقته الظروف عن هذه العائلة، ومنهم من بقي يحارب إلى جانب الأم العظيمة، رغم وصول الطفل سن التمدرس لم ينعم بهذا الحق فهذه ليست المرة الأولى التي تسحب منه الحياة حقاً، كان قلبه معلقاً بالمدرسة والعلم، لكن الرغبة لا تكفي بعض الأحيان، يحكي وعينيه متحجرتين بالدموع عن إنهاء حلمه قبل بدئه، فحياته الدراسية كانت أقصر من الثانية؛ صراحة ينبغي إدراجها ضمن موسوعة غينيس كأقصر مدة تمدرس على الإطلاق، والسبب في ذلك هو عدم توفر قلم ولوح وطبشور لكم أن تتخيَّلوا!
زجَّ بطفل في سجن الجهل لأشياء نعتبرها اليوم أكثر من بديهية، فقط لأن وضعه المادي لا يسعفه في إحضارها، أنلوم الطفل ونعيب عليه يتمه وفقره؟ أيتحمل الطفل مسؤولية شيء لا دخل له فيه؟ أنحكم عليه بالأمية جزاء لفعل لم يكن مذنباً فيه؟ هكذا تم إنهاء حلم طفل بأبشع الطرق، ليرجع إلى الشقاء والتوبيخ والجوع بعد حرمان آخر، كان له وقع كبير على نفسيته وسيبقى فهو لم يطلب المستحيل، لكن الواقع يقابله بالصدمات.
لم يجد الطفل ملجأ سوى أحضان أمه التي يئن قلبها على حالها وحال أبنائها وجور الأقارب والأحباب، الذين يكتفون بالمشاهدة، وتحث أبنائها على مواصلة نضالهم.
أصبح الأطفال بعد سنوات حزاورة، يجوبون المدن للبحث عن عمل لبناء مستقبلهم كيلا يعيشوا اليتم حتى في كبرهم، عمل الطفل اليتم الذي أصبح شاباً وسيماً في مجال البناء إلى جانب بعض من أشقائه، وقد كان ذكياً؛ فيتمه كان له دور في شخصيته القوية..
كان يذخر المال وفي سبيل ذلك كان يغيب عن أسرته لسنوات، يجوع نفسه يصبر لجور الناس، فهذا شيء تعود عليه، ولا يمكن أن يبدي ردة فعل وهو قد شارف على النجاح.
خبر سار، قبل أحد أخواته كجندي ، مما يعني انتهاء بعض من المعاناة، نعم أخ ضحَّى لأجل إخوته ولتحسين أوضاعهم، لن نستغرب فهو محارب جبل على النضال.
بدأت الأوضاع تسير للأفضل نسبياً، لكن الطفل لن يثقل كاهل أخيه برغباته يجب أن يعمل هو على تحقيقها، يكفي أن يرى والدته تتخلص من بعض العبء بتوفير الطعام، كان يشتغل ويتعب المهم أنه يتقاضى أجراً، يأكل قدر ما يشاء.
مرَّت السنوات واستطاع اليتامى أن يثبتوا أن الاستسلام للظروف، هو ما يجعلك ضعيفاً، أصبحوا رجالاً يضرب المثل بأخلاقهم، وشرفهم ونزاهتهم، يشيدون بمجهودات الأم التي استطاعت أن تنصف النساء في مختلف العالم، فقد كانت مثلاً عظيماً عن قوة المرأة الكامنة، وان المرأة تستطيع أن تكون رجلاً وامرأة، أماً وأباً، صديقة وأختا، ربة منزل وقائدة لشؤون أسرتها.. أعشقك أيَّتها الأم العظيمة إنك حقاً قدوة، تغمدك الله بواسع رحمته.
الفتى اليتم والمسكين، أصبح زوجاً وأباً، صاحب منزل خاص جميل، وصاحب متجر متواضع فالتجارة كانت العمل الوحيد الذي جادت به الحياة عليه، أصبح أباً عظيماً، وكيف لا يكون وهو من ذاق مرارة الفقد وحرم من نطق كلمة "أبي" ولو لمرة في حياته.
أصبح صديقاً لأبنائه يلبي رغباتهم قبل أن ينطقوا بها، يقرأ عينيهم وحزنهم قبل يبوح به أحدهم، يحاول أن يعيش من خلال أبنائه، يسهر على توفير كل الإمكانيات التي تتيح لهم تحقيق أحلامهم.
كنتُ طفلاً يتيماً ولكن بوالدته باراً، لم يرضَ أن تذرف دمعة واحدة، وأصبحتُ أباً صالحاً لا يرضى أن يذرف أطفاله دمعة واحدة، سامحنا لأننا لم نستطع أن نمنع نزول دمعة واحدة من عينيك أيُّها المحارب.
إنه أبي أيُّها السادة، فخري به لن تختزله هذه الكلمات، وامتناني بكونه أبي لن أستطيع التعبير عنه، أتمنَّى أن أحقق حلمك، وأن أكون ثمرة لنضالك، وأتوَّج بنجاح كبير، أطال الله عمرك وجعلك سنداً لنا، لقد كنت أهلاً لها أيُّها المحارب.
اقرأ أيضاً
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.