اليوم وقد مات سجاني، مات ليزيد قيدي، مات ليحرمني لذة الحرية المرتقبة، مات ليمنع عني وجوده وإحساسي بوجودي، مات ليمنع عني الورود وعطرها، مات ليقول لي أنت حبيسة أحزانك مدى الحياة.
مات وتركني كالعصفور الطليق دون أجنحة ليطير، نعم مات زوجي، زوجي الذي أحببته فقط بعد وفاته، زوجي الذي تزوجني رغم علمه أني كنت أرغب في الزواج بصاحبه، فجاء عقابي له طيلة 3 سنوات من الزواج، ألا يرى مني إلا هذا الوجه العبوس، رغم أنه كان بشوش الوجه، عطوف الطباع، لم أذق منه فظاظة لفظ قط، لم يجبرني ولو مرة واحدة منذ زواجنا على تلك العلاقة التي تجمع زوجين، تلك العلاقة التي يذوب فيها حبيبان كأنهما جسد واحد، ولكننا لم نكن حبيبين.
مات ولا أزال عذراء لتلك اللحظة، نعم لم أرغب به زوجًا، كنت أكره وجوده بالبيت رغم هداياه المتناثرة في كل مكان التي لم أنل منها فرحة أو تهتز بها مشاعري رغم ثمنها المبالغ فيه، كنت سجينة في هذا البيت رغم كل الحرية التي أملكها، كنت أحس أني تحت إقامة جبرية.
كنت أرى أصدقائي جميعًا بصحبته أو بمفردي، كنت أرى جميع أصدقائي إلا ذاك الشخص الذي أحببته، فقد اختفى تمامًا قبل زواجي بصاحبه، ما زاد كراهيتي لهذا الزوج إذ فرق بيننا، فكنت أسأل عنه بعض المقربين دون جدوى، رغم ظني أن تفكيري ورؤيتي له خيانة زوجية لزوج ولزواج لم يقم بعد، نعم إنها خيانة لذلك الرجل الذي أعيش تحت سقف بيته، هذا البيت الذي تحاوطني جدرانه وكأنها زنزانة أبدية جبرية، زنزانة بلا قضبان، كنت دائمًا أتهمه بالصديق الخائن لعلمه رغبة صديقه في الزواج بي، وتزوجني فقط لخلافات بينهما انتقامًا منه، هذا ما كنت أظنه وأعلمه، وكنت كلما أسأله لماذا فعل بي هذا يضحك ويقول لأني أحبك.
كان هذا الرد كفيلًا بأن يحرك مشاعر أي زوجة ويلين قلبها لزوجها، ولكن في كل مرة كنت أزداد عنادًا وكراهية له، وأعده السجان الموكل بحراستي.
كنت كثيرًا ما أتساءل، هل هذا هو الصديق الذي أحببناه ووقرناه جميعًا؟ فقد جمعتنا الصداقة في الجامعة في أعمار وعلوم دراسية مختلفة، وكان زوجي وصاحبه أكبرنا سنًّا بعامين في السنوات الدراسية، وكان يعلم وصحبتنا بحبي لصديقه الذي اختفى قبل الزواج نهائيًّا، تحول كل احترامي له إلى كراهية، ولولا ضغوط الأهل ما تزوجته، تغيرت نظرتي له تمامًا، فكنت أرى العالم كله كارهًا له وغير محبوب من أحد، واليوم بعد موته ظننت أني حرة طليقة في هذا الكون.
لم أتخيل هذا الكم الهائل من حزن أناس أعرفها ولا أعرفها جاءت تقدم واجب المواساة فيه، أناس تأتي وتبكي موته أمامي، وأناس تنعى نفسها لفقدها مثل هذا الرجل، مرت أيام قلائل على موته ولم يرني أحد إلا وبكى.
قررت في تلك اللحظة اكتشاف هذا الغموض الذي أنا فيه، رأيت أن الجميع أحبه إلا أنا، وكأن ستارًا أسود حجب عني الرؤية طيلة الأعوام الماضية وقد ينزاح اليوم عن عيني، وأول مرة منذ زواجنا أدخل غرفته، تلك الغرفة التي كان يبيت فيها، ينظفها بيده ويوضب حاجياته وأوراقه بنفسه، كانت خلوة له، أشم بها رائحة عطره، سرير صغير عليه وسادة مطبوع عليها صورتي مكتوب عليها "عشق العمر".
رأيتني أبكي ولأول مرة يهتز قلبي، أقصر كلمات لحب حقيقي، فقد أحبني حقًّا.
على مكتبه بعض الروايات لبعض الكتاب المشهورين وغير المعروفين، بعضها تتكلم عن حق الزوجة، والأخرى تحدثنا عن حب الموت ولقاء الآخرة وكيف يصل إلى حب الله، وبجوار تلك الكتب تدويناته اليومية، جلست على مقعده لأجد دفئًا وراحة لم أشعر بها يومُا، تجرأت وأمسكت تدويناته وبدأت قراءة صفحاتها، لم أتجاوز بضعة سطور حتى دمعت عيني من جديد، يقول فيها:
أعلم أنك يا عزيزتي يومًا ستقرئين تلك الصفحات، وحينها أكون قد أصبحت في عداد الموتى، ورغم أن باب غرفتي لم يغلق أبدًا، أعلم أن قدمك لم تطأ غرفتي إلا الآن.
أعلم أني تزوجتك وأنت غير راضية ولم ترغبي فيَّ يومًا قط، ولكني تزوجتك لسببين، الأول أني أحببتك بصدق، والثاني خوفًا عليك من صدمة فراق هذا اللص، ذاك الصديق الذي عشقته دوني ولم يقدر هذا العشق منك وتركك دون وداع.
كان يوجد شجار دائم بيني وبينه دون علم السبب، ولكن كان السبب الوحيد هو أنت يا غاليتي، كنت دائمًا أذكره بحبك له، ورغم حبي لك أهديتكِ له، رغم أني أرى أنكِ هديتي من الله، ولكني أعترف أني فشلت في الجمع بينكما، وتوقفت عن تلك المحاولات معه بعدما قالها صراحة، غدًا سأصير طبيبًا ولن أكون طبيبًا بالمشفى وطبيبًا بالبيت.
تلك الكلمات منه أوجعتني، جعلتني طبيبًا لك يا عشق الفؤاد، فكرت في تلك الليلة أن أتجرأ على خطبتك وأنا أعلم أن أباك يرغب في زوج يصون ابنته، وأعلم أنك لم توافقي على الزواج بي إلا بالضغط من الأهل، وفشل المحاولات والاتصال بذاك الصديق.
أعلم جيدًا أنك ضحية أفكاره وأنانيته، كما أعلم جيدًا أنكِ هديتي وهبة لي من السماء.
تزوجتك وعاهدت نفسي أن أكون طبيبك وأن أصاحبك حتى يأتي اليوم ويلين قلبك لي، كنت تتأففين من تصرفاتي معك، كنتِ دائمًا ما تجرحيني بكلماتك وتساؤلاتك وتتهميني بالخيانة، وكنت إذا ابتسمت لك تنعتيني ببرود المشاعر، غدًا إذا قلبتِ في تلك الصفحات أكون بلا وجود، أكون قد انتقلت إلى حياة أخرى.
أعتذر منك ليلة أطلت النظر إليك فقد شعرت برائحة الموت في غرفتي، أحببت أن أشبع القلب منك قبل الرحيل.
نزفت الدمع من عيني ندمًا، كنت قاسية حقًّا وأذقته وجعًا فوق وجعه، كانت تلك الكلمات بقلبي كالقذائف بالميدان، من السجان؟ نعم، من منا كان السجان؟
كنت أظنه السجان ولكنه كان أسير عشقي، يحدثني وأصم أذني، ينظرني ولا أعيره اهتمامًا فأنا العمياء لا أبصر، تغمرني هداياه ولا أبالي، كانت سفينتي يقودها قبطان العشق ولا أدري، والآن تلك السفينة في وسط الأمواج المتضاربة المتلاطمة، وأنا لا أجيد فنون الحياة دونك، أناجيك وأناديك وأتوسل إليك الرجوع.
عد لي فكلي آذان مصغية، عد لي فقد اشتاقت عيني لرؤياك، عد لي يا هدية أجمل من كل الهدايا.
ليتك يا دمع تفك قيدي، ليتك يا دمع تعيده إلي، ليتك تعود فأنا بلا قيد سجينة، ليتنا بمقدورنا نعيد الحياة، ليتنا بمقدورنا نقرأ خفايا الصدور، فتعلم القلوب حينها من جرح قلبه ويديه بشوك الورود لأجلنا، ومن غرس في الخفاء لغم الأوجاع بالقلوب فأضاعنا، ليتنا نرضى بأقدارنا، ليتك تدق بابي حاملًا ورودك من جديد.
سألملم من حولي تلك الورود البائسة، فأشتم رائحتك فيها، فأنا حقًّا أشتاق إليك بوجداني، حقًّا أنا أشتاق إلى ورود سجاني.
رائعة ودمت مبدع ومتألق دائما
تحياتي
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.