حين تختار الكلمات أن تولد.. واليوم أطلقت سراحها

في عزلتي وجدت رفيقًا لم يخذلني.. الكتابة، لم تكن مجرد هواية، بل انبثاقًا لما لم أستطع قوله، ملجأً لحروف لم تجد أذنًا تصغي. كنت أكتب بصمت، أخزن كلماتي ككنزٍ مخفي، أودعها شاشة هاتفي كأنها سرٌّ لا يليق بأحد، لكن اليوم قررت إطلاقها، ليس لأنني أحتاج أن تُقرأ، بل لأنها تحتاج أن تُولد خارج سجن المسودات، اليوم اخترت أن أمنحها النور، واخترت أن يراني العالم بها.

لم يكن الأمر اختيارًا، لم أستيقظ ذات صباحٍ وأقرر أن أكون كاتبة، لم أُخطط لأن تتكدَّس الحروف في داخلي كما تتكدَّس الأرواح في الأزمنة الضائعة. لم يكن هناك قرارٌ واعٍ، بل كان كل شيءٍ يتكوَّن في الظل، في تلك الزوايا التي لا تراها العيون، حيث تولد الأفكار في العزلة، وتنمو في صمتٍ لا يشبه صمت العاجزين، بل صمت من يُنصت لشيءٍ أعظم، شيءٍ لم يفهمه بعد.

كانت الوحدة البداية، لكنني لم أكن وحدي حقًّا، كنتُ برفقة فكرةٍ ملحَّة، فكرةٌ تتسلل إلى عقلي في أكثر اللحظات هدوءًا، تُتمتم في أذني، تُلحُّ عليَّ كما لو أنها تنتظر أن أكتبها، كما لو أنها وُجدت فقط لتُسجِّل على صفحةٍ ما، وتُمنح الخلود في هيئة كلمات.

كنت أظن أنني أمتلك أفكاري، لكن الحقيقة أنني كنتُ ملكًا لها، كنتُ مجرد يدٍ تُنفذ مشيئتها، مجرد وسيطٍ بين شيءٍ مجهولٍ والورق الذي لم يكن ورقًا هذه المرة، بل شاشة هاتفٍ تُضيء في العتمة.

الكتابة في الظل

لم أكتب لأكون مقروءة لي، لم أكتب ليُصفق لي أحد، كنتُ أكتب لأنني لا أملك خيارًا آخر، لأنني لو لم أفعل، ستخنقني الكلمات كما تخنق النبوءات القديمة أولئك الذين يرون أكثر مما يجب.

كنتُ أكتب وأحفظ نصوصي كمسودات، أخزنها كما يخزن المرء كنزًا في قبوٍ بعيد، أخاف عليها من العيون، من التقييم، من الأحكام.

كنتُ أشعر أن كل كلمةٍ هي جزءٌ مني، وأن نشرها يعني تعريتي أمام العالم، ولذلك خبأتها، رصصتها في ملفاتي السرية، وتركتها هناك، تنمو كأشجارٍ بلا سماء.

في كل مرة كنت أكتب، كنت أشعر وكأنني أقتطع جزءًا من روحي، أضعه في نصٍّ وأتركه هناك، معلقًا في العدم، ينتظر مصيره.

الكتابة جزء من الروح

كنت أعود إلى كلماتي كما يعود المسافر إلى وطنه، أقرأها وأشعر أنها تزداد نضجًا مع الوقت، كأنها تتحوَّل إلى كيانٍ حيٍّ، ينمو ويتغير، يكتسب حكمةً لم أضعها فيه عمدًا، لكنها نشأت هناك، كما ينشأ الصدأ على المعدن، بلا إذن، بلا مقدمات.

لكن الكلمات ليست مصممةً للبقاء حبيسة

يوجد شيءٌ غريبٌ في الكلمات، شيءٌ يجعلها أشبه بالكائنات التي لا تقبل الأسر، يمكنك أن تخبئها وقتًا، أن تؤجل مواجهتها، أن تحاول إقناع نفسك أنها ملكك، لكنها ليست كذلك. الكلمات تُشبه النار، لا يمكنك أن تُمسكها دون أن تحترق، ولا يمكنك أن تُخفيها دون أن تشعر بحرارتها تتزايد في داخلك حتى تنفجر.

كنتُ أعيش في مرحلةٍ بين الاحتفاظ بها وإطلاقها، في صراعٍ بين أن أبقى تلك التي تكتب لنفسها، وتلك التي تُجازف وتُلقي بنفسها في بحر القراءة العامة، فتُصبح الكلمة عرضةً للتأويل، ويُعاد تشكيلها بعيون الآخرين، فتفقد جزءًا من سحرها الغامض، لكنها تكتسب حياةً جديدة، ليست لي وحدي، بل لكل من يقرأها.

واليوم.. قررتُ نشرها

لا أعلم لماذا اليوم تحديدًا. ربما لأنني سئمتُ من كون كلماتي محبوسةً في عزلتها، أو ربما لأنني أدركت أخيرًا أن ما أكتبه ليس لي وحدي، بل هو شيءٌ يخص من يحتاج إلى قراءته، إلى من سيجد فيه انعكاسًا لنفسه، حتى لو لم أكن أنا المقصودة بذلك.

اليوم قررتُ أن أترك نصوصي تغادر مكانها الآمن، أن تُواجه مصيرها، أن تتعرض للرياح والقراءات والأحكام. لم أعد أخاف من أن تُفهم فهمًا خاطئًا، أو أن تُرفض، أو أن تمر بلا أثر؛ لأنني تعلمت أن الكلمات حين تخرج تجد طريقها بنفسها، تختار مصيرها، تعيش أو تموت وفق قانونٍ لا أتحكم به.

إنني أنشرها لأنني أدركت أن الكتابة ليست مجرد فعلٍ خاص، بل هي كيانٌ مستقل، له حقٌ في أن يكون، في أن يتنفس في عيون الآخرين، في أن يصبح جزءًا من العالم، لا مجرد فكرةٍ مخبأة في عقلٍ واحد.

واليوم حين أضغط على زر النشر، لا أودِّع كلماتي بل أحررها، واليوم تبدأ الحكاية من جديد.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

مقالات ذات صلة