في ليلةٍ من ليالي الحب، تتراقص المشاعر على أنغام أغنية لم تكن مجرد كلمات وألحان، بل مرآة عاكسة لآهات المحبين وندوب القلوب المكسورة. لم يكن يعلم د. إبراهيم ناجي، الطبيب الإنسان والشاعر الملهم، أن قصيدته "الأطلال" ستُصبح أيقونة الغناء العربي، يخلِّدها صوت كوكب الشرق أم كلثوم، ويلحنها العبقري رياض السنباطي، لتصبح نشيد الفراق والحنين الذي يسرق الأنفاس كلما صدح: "يا فؤادي لا تسل أين الهوى".
إبراهيم ناجي.. الطبيب الذي داوى القلوب بالكلمات
وُلد ناجي عام 1898، وكان طبيبًا قبل أن يكون شاعرًا، فجمع بين شفاء الجسد وتهدئة الروح. تخصَّص في طب الأسنان، لكنه كان أشبه بطبيب نفسي، يقرأ في أعين مرضاه أوجاعًا لا يقدر الطب على مداواتها، فكان يعالجهم بالكلمة الرقيقة قبل المبضع، وبالقصيدة العذبة قبل الدواء. لم يكن المال يعني له شيئًا، فطالما عالج الفقراء بالمجان، ووهب حياته للمحبة والإبداع.
أولى محاولاته الشعرية نشرها في مجلة "الفجر" في عشرينيات القرن الماضي، إذ لفت الأنظار برومانسيته الحالمة وموسيقاه العذبة، التي جعلته أحد أعمدة جماعة "أبولو" التي أعادت للشعر العربي روحه العاطفية الرقيقة.
قصة حب أحرقت القلب وألهمت "الأطلال"
وراء هذه الرائعة الخالدة قصةُ حبٍ ملتهبة، عاشت بين أضلع الشاعر وامتدت جذورها سنوات، أحب ناجي امرأةً من بعيد، لم يجرؤ على البوح لها، وربما كانت تعلم بحبه لكنها ظلت بعيدة، تلوِّح له من خلف ستائر القدر. وعندما اختفت من حياته، تركت في روحه فجوةً لم يملأها شيء، فصبَّ وجعه في قصائد حملت أنين القلب ودموع الفراق.
الأطلال.. أغنية تُجسِّد الفراق بعزة نفس وكبرياء
حين اختارت أم كلثوم أن تغني رائعة "الأطلال"، لم تكن تعلم أنها تصنع أسطورةً فنيةً لا تموت. بصوتها القوي المملوء بالكبرياء، حوَّلت الشجن إلى انتصار، والألم إلى شموخ. تلك الكلمات التي كتبها ناجي بحرقة قلب، وجسَّدها السنباطي بلحن يجمع بين الانكسار والتحدي، أصبحت دستورًا لكل من تجرَّع كأس الحب المُرّ.
أذكر حينما كان أبي يأخذني وأخوتي في نزهاتنا، كانت "الأطلال" تملأ السيارة بصداها. مع صغر سني، فإني لم أكن أفهم المعاني كاملة، لكنني كنت أشعر بها. كان صوت أم كلثوم يشدُّني إلى عالم آخر، حيث يلتقي الحب بالحسرة، والعشق بالفراق، تمامًا كما أراد ناجي أن يكون.
"يا حبيبي كل شيء بقضاء".. أنشودة العاشقين في ليلة الحب
في عيد الحب، لا نحتاج إلى ورودٍ حمراء أو رسائل مكتوبة، بل نحتاج إلى "الأطلال" تُذاع في ليلة صافية، يتغلغل لحنها في الروح، وتهمس كلماتها للقلوب العاشقة التي اختبرت لهيب الحب ولوعة الفراق. وتظل قصيدة ناجي رسالةً خالدة لكل من أحب وفقد، ولكل من تمنى المستحيل وظل يحمل ذكرى الحبيب في قلبه كجوهرة لا يخفت بريقها.
الحب الباقي هو حب الله
إن كان الحب الأرضي قدره الفناء، فذاك حبٌّ لا يضيع أبدًا، ولا يخبو بريقه مع الزمن، ولا يُترك فيه القلب معلقًا على الأطلال، إنه حب الله. الحب الذي يملأ الروح طمأنينة، ويمنح القلب سكينة، ولا يُعذب صاحبه بالانتظار أو الفراق. الحب الذي لا يخضع لظروف الحياة ولا تقلبات الأيام، بل يزداد كلما اقتربت منه، وكلما رُفعت الأكف بالدعاء، وانحنى القلب بالخضوع.
حين نبحث عن الحب الذي لا يخون ولا يرحل، سنجده في لحظة السجود، في دمعة رجاء، في يقين أن الله هو الحبيب الذي لا يغيب، والسند الذي لا يميل، والعوض الذي يملأ القلب نورًا بعد ظلمة الفراق.
فيا أيها العاشق الذي أضناه الحب، إن خذلتك الأيام وسُلب منك ما تحب، فلا تبكِ كثيرًا على الأطلال، بل ارفع رأسك إلى السماء، فذاك حبٌ أعظم، حبٌ يبقى حين يرحل الجميع، حبٌ يمنحك الدفء والسلام الحقيقي (حب الله).
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.