في ظهيرة أحد أيام شهر يوليو؛ حيث شمس المدينة، يمكنها إذابة البشر- أي بشر- على الطريق، دخلت فتاة متوسطة الطول، ممتلئة الجسد قليلًا، خمرية اللون، ذو ذاكرة حديدية، دخلت بكامل إرادتها إلى أحد الأسواق، لا لشراء احتياجاتها، فلم يكن لهذه الفتاة أي احتياجات بعد، لكن السبب كان في موقع "السوق" حيث يطل على النيل، أو كما تسميه الفتاة "البحر" والسبب الآخر هو الإضاءة الخافتة للمكان، حيث ينحصر السوق بين عدة بنايات مرتفعة حجبت عنه لعنة الشمس، أما السبب الحقيقي هو رغبة "الفتاة" في الاختفاء. والحقيقة لم تكن هذه الفتاة من مسجلي الخطر، ولم تكن تعرف ما هي الشرطة، أو كيف تقف أمام وكيل النيابة لتدلي بأقوالها في أي قضية، ولكي أكون صادقة، لم تكن "الفتاة ذو الذاكرة الحديدية" ترغب في الاختفاء، لأنها لم تكن تعرفه، كل ما في الأمر أن هذا المكان"السوق" كان يروق لها منذ كانت طفلة لم تتجاوز السبع سنوات، وقد خاضت عدة محاولات للذهاب إلى هناك، لكنها باءت جميعها بالفشل، فعادة ما كان يقابلها أحد الأقارب، الذي بدوره يعيدها بفخر إلى أسرتها، والآن في هذه الظهيرة، وهي شابة في العشرين من عمرها، عائدة من إحدى المصالح الحكومية، لاستخراج أوراق خاصة بهويتها في هذا المكان من العالم، قررت الدخول إلى السوق، وتمزيق جميع الأوراق التي تثبت شخصيتها، لتبدأ حياة جديدة وسط مجموعة من الباعة الذين بالطبع لا يعرفونها. إن السوق بالنسبة للفتاة العشرينية، هو المكان الأكثر إغواءًا من بين الأماكن الأخرى التي تعرفها؛ حركة الناس، البضائع المتعددة، من ملابس وخضروات وفاكهة، ومستلزمات منزلية، وأسماك، أصوات الباعة، النساء البارعات في البيع والشراء، الروائح المثيرة، الضجيج والازدحام، حقًا إنها الحياة في ذروتها كما تراها الفتاة، منتهى الواقعية ومنتهى العبث المحبب لها الذي يشعرها بالبهجة، ويجعلها تلقي بنفسها في أي مكان، وسط أي ناس. إنها تؤمن أن حياتها ملكًا لها، وليست لها في الوقت نفسه، لذا هي تبدأ بالمغامرة، ثم تترك نفسها للحياة، والحياة بدورها لا تكذب خبرا.
هذه الفتاة الرقيقة، قررت إنهاء حياتها القديمة، وبدء حياة جديدة، وسط مجموعة من الباعة، ياللدهشة، وياللبساطة؛ فتاة في مقتبل العمر تقرر أن تضيع، وأن ترتدي جلبابًا مهترئًا، وتضع أمامها أقفاص من الخضروات والفاكهة، وتظل تنادي على الزبائن، حتى يبح صوتها، وفي المساء حين تتذكر أنها لا يمكنها النوم في الشارع خوفًا من الكلاب المسعورة والكائنات الضالة، ستسير بجوار رجل خمسيني أو ستيني- الرجال في هذا العمر يحبون السير بجوار الشابات الصغيرات ليلا- ليطرق معها بعض البيوت، للبحث عن حجرة لاستئجارها. الحجرة لاشك تفوح منها رائحة العفن، وأصحاب البيت لا يتوقفون عن الحديث حول سيرة الفتاة الشخصية، وكذلك كل من يعرف الحكاية.
كل ذلك لا قيمة له لدى هذه الشابة الصغيرة، الشيء الوحيد ذو القيمة هو ذاكرتها الممتلئة بالصور والأحاديث والأماكن والناس؛ إنها تنتمي إلى عائلة ذات جذور قوية في الأرض، ومنذ بداية وعيها بالحياة، لم تنس أي شيء، كانت ذاكرتها تلملم كل الأشياء وتكدسها في منتصف رأسها، أين تذهب بهذه الذاكرة؟ أين تلقي بصور أمها التي تثير في نفسها الشجن والغرابة؟. إنها لا تنس شيئا، لقد قطعت الكثير من الطرق برفقة أمها، حيث ذهبا إلى أرضهم البعيدة، وقطعن الحشائش الضارة من النباتات، وكانت هناك الترع، والغاب مغروسا على حوافها، وامرأة عجوز تسكن أحد البيوت الطينية، يذهبان إليها بالطعام والحلوى. إن صوت أمها الحاد، خاصة وهي تنطق كلمات مثل: الدار، الموت، الحزن، الفرح، المقبرة، الأرض، العيش، الزمن" لا يزال يدق بقوة في رأسها، إنه صوتًا آت من مناطق بعيدة وغامضة، صوتًا متجاوز جسد الأم بانحناءاته التي تثير فيها الشجن والبكاء. يالعذاب تلك الفتاة، هل ستنسى، عين جدتها المغلقة، هذه العين التي بلعت كل الظلام، عن بيتهم الصغير، حتى صارت الجدة، بالنسبة إليها، الليل والنهار معًا، هل ستنسى هذا البيت الهش الذي كان من الممكن القضاء عليه في ثواني معدودة، باتكاءة واحدة على الجدران الرطبة؟ أين ستذهب بعذوبة الشتاء الذي يفتح صندوق الدنيا أمامها على حكايات بطول الحياة، وعمق الأرض؟، وأي شيء سيقضي على الشقوق في قدم أبيها، التي تأخذ حيزًا كبيرًا من ذاكرتها، وكيف ستبدد رائحة عرقه المكونة من الطين والماء والشمس، وحين تعود مرة أخرى إلى أمها، كيف ستطوي الطرق اللتان قطعاها معًا، كيف ستحولها إلى تراب، وماذا عن طريق الموت، هذا الطريق الواصل بين بيتها ومقابر الأجداد، والأطفال ممدودي الأيدي، للنساء وهن يوزعن الرحمة. يالها من حياة عارمة، عاشتها الفتاة ذو العشرين عامًا، ولأنها هكذا عارمة وممتلئة، فعود ثقاب واحد يستطيع إشعالها، وتحويلها إلى تراب، سيتساقط من رأسها يومًا ما، وسيكون يومًا طويلًا، يساوي سنوات عمرها المتبقية، هذا ما تخشاه الفتاة، إنها تخاف الحريق الذي سيحدث مستقبلًا. إن حياتها القديمة قد انتهت للتو، حين رأت السوق بألوانه وضجيجه، وحيويته. إن فوضوية "السوق"، تجعله بلا ذاكرة، كل شيء سيسقط على الأرض في نفس اليوم، لا شيء سوى البيع والشراء، وبعض الأحاديث الطريفة عن النساء والرجال. ستشعر بالمتعة، والحرية، وهي ضائعة وسط الناس، لا يعرفها أحد، وإذا صادفها أحد المعارف، ستنكر على الفور أنها تلك الفتاة ذو الذاكرة الحديدية، التي عاشت لعشرين عامًا في بيت هش، وسط عائلة ذات جذور قوية في الأرض. ستنكر لأن حياتها القديمة صارت معتمة، بما يكفي لانكار كل شيء.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.