«حنين على حافة النافذة».. قصة قصيرة

في قرية هادئة على أطراف بعلبك، كانت تعيش قطة أم، اسمها ليَّا، لونها رمادي مائل للفضي، عيناها واسعتان كأنهما تحملان حزن الأزمنة كلها. وكان لها هرة صغيرة، ناعمة كقطعة غيم، تُدعى نورا.

ليَّا لم تكن تملك كثيرًا، لكن صدرها كان مليئًا بحبٍّ جارف لهرتها الوحيدة. كانت تُطعمها من صيدها، تُدفئها تحت جناحها في الليالي الباردة، وتغني لها بصمت القلوب.

لكن الفقر والجوع وقسوة الطبيعة كانوا أقوى من الحنان. خافت ليَّا أن تكبر نورا في البؤس والبرد، فقررت أن تمنحها فرصة حياة أفضل. وفي صباح رمادي، حين كان الضباب يلفُّ الحقول، حملتها بين أسنانها الصغيرة وتسللت إلى حديقة بيت سيدة طيبة تُدعى ميساء، تعيش وحدها في بيت واسع، وتحب الحيوانات.

وضعتها أمام الباب... ثم رحلت.

كانت نورا ترتجف، تصرخ بصوتها الطفولي الخافت، ففتحت ميساء الباب، وحملتها كأنها كنز ضائع.

مرَّت الأيام، وكبرت نورا في دفء بيت ميساء، تأكل مما لذ وطاب، وتنام على الأرائك المخملية، وتلعب في أرجاء البيت وكأنها أميرة. لكنها، كل مساء، كانت تصعد إلى النافذة، وتُحدق في الأفق، وكأن قلبها الصغير لا يعرف لماذا يشعر بالفراغ...

كانت تشعر أن شيئًا ينقصها.

أن حضنًا ما، برائحة لا تُنسى، لم يعد موجودًا.

تمر بها نسائم الغروب، فتنكمش في طرف الشباك، كأنها تسأل الغياب:

أما من طريق إلى صدرٍ عرف الأمان؟

أين تلك العيون التي خبأتني من العالم؟

أما زال الدرب يعرفني... إن عدت؟

كبرت نورا، لكن ميساء بدأت تشيخ. وفي ليلة ممطرة، نامت ميساء ولم تستيقظ. امتلأ البيت بالغرباء، وبدأوا يفرغون محتوياته، حتى إن أحدهم نسي الباب مفتوحًا.

خرجت نورا... لا تعرف إلى أين تذهب، لكن قلبها كان يعرف.

خرجت نورا... لا تعرف إلى أين تذهب، لكن قلبها كان يعرف

مشَت عبر الحقول، عبر الطين والعشب والذكريات، وعادت إلى مكانها الأول، حيث وُلدت، حيث الرائحة لم تزل على الصخور، حيث قلبها ظل معلقًا منذ الرحيل.

وكانت ليَّا هناك.

كبُرت، شاخت، لكن عينيها ظلتا تنتظران النبض نفسه.

نظرت نورا إليها...

تقدَّمت بخطى خجولة،

تشمُّ الأرض، ثم الهواء، ثم...

نظرت في عيني أمها،

فوجدت فيهما الوطن الضائع.

واتكأت على جسدها، كما كانت تفعل صغيرةً،

وغفت...

وهي تخرخر أول مرة منذ سنين.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.