اندفعتُ نحو عيادة الطبيب كمن يفرُّ من حكم بالإعدام. تعثرتُ مرتين وأنا أصعد درجات السلم المتآكلة، وشعرتُ بقلبي يكاد يمزق صدري، ينبض كأنه في سباق مع النهاية.
لم أعبأ بالألم الذي كان يخترق جسدي، ولا بالخطوات التي بدت وكأنها تثقل كاهلي أكثر مع كل درجة.
لم يكن الهواء البارد كافيًا لإخماد العرق الذي تدفق بغزارة على وجهي. كل ما أردته هو الوصول... الوصول فقط.
دفعت باب العيادة بعنف، متجاوزًا من كانوا يسبقونني، دون أن أكترث بوجوههم.
خانتني ركبتاي، فسقطت أمام الطبيب، ورفعت بصري المغرق بالذعر نحوه. حاول أن يقول شيئًا، لكنني قاطعته بصوت متهدج، وبالكاد يصل إلى مسامعه:
كيف أعيش بلا نوم؟! وأنا متيقن أنه لو استسلمت، سيتوقف قلبي!
كانت الكلمات تتدفق من فمي كما ينساب النفس الأخير من رئة إنسان يحتضر.
رفعني الطبيب بهدوء وقادني إلى سرير مائل، فاستلقيت عليه كمن يسقط في بئر بلا قرار.
شعرت بجسدي المثقل بالتعب ينحدر في دوامة من الدوار، في حين الأفكار المتلاطمة تعصف برأسي، وقلبي يخفق بجنون، وكأن عقلي لم يذق طعم الراحة منذ سنوات.
ورغم كل ذلك، كان هناك صوت... صوت عقارب ساعة غريبة يتسلل إلى مسامعي ببطء، دون أن أتمكن من تحديد مصدره؛ إذ لم تكن هناك ساعة في مكتب الطبيب.
في النهاية، أغمضت عيني مستسلمًا، وما بيدي حيلة، لأستشعر من جديد ذاك الحلم الذي يتربص بي كلما اقتربت من النوم، كأنه شر ينسل من زوايا الجحيم.
عندها اجتاحتني رغبة ملحة في سرد حكايتي للطبيب قبل أن يفوت الأوان.
فتحتُ فمي، وتسرب صوتي مشوشًا من بين شفتيَّ اللتين اكتستهما زرقة الموت. ومعه بدأ الحلم يتسلل كضباب كثيف، يغمر تفاصيل الغرفة تدريجيًا:
منذ أربعة أيام، بدأ الأمر.
رأيت في حلمي فتاة، فتاة غريبة... شعرها أصفر قصير، ترتدي قبعة مزركشة، و... كانت حافية القدمين. كان وجهها يفيض بالزعر، وعيناها... كم كانت حزينة.
كنا في مكانٍ مظلم، وكأن الليل يلتهم كل شيء.
فوقنا كان هناك جسرٌ قديم، وقطارات تمر فوقه بسرعة مخيفة، حتى اهتزت الأرض من تحتنا.
رجالٌ ملامحهم شريرة وقفوا على الجسر هناك، أحدهم هبط مسرعًا نحو الفتاة في حين ينظر الآخرين في تربص.
بدأت الفتاة في الركض، وبدون وعي تبعتها...
توقف صوتي لحظة، ولم أستطع فتح جفني مرة أخرى، وكأن الذكرى أثقلته.
بدأت أفك رباط عنقي لألتقط أنفاسي، في حين كانت الإضاءة في المكتب تتلاشى، وكأن الليل يتسلل خلسةً إلى المكان على الرغم من أننا في وضح النهار.
شعرت بأن العالم من حولي يذوب، وأن وقع خطوات الحياة ينسحب ببطء، تاركًا وراءه فراغًا أسود كالغياهب.
حتى انزلق عقلي في خمول بطيء، كبحيرة راكدة فقدت حركتها.
حاولت استجماع شتات أفكاري، فرفعت يدي المرتعشة نحو رأسي الأصلع؛ عندها فقط أدركت كم كانت باردة... صمتُّ، ثم...
عبرنا أزقة ضيقة تفوح منها رائحة الفقد والخيبة، حتى بلغنا مدينة ملاهٍ عملاقة، حيث بدا كل شيء مشوهًا، كأنه صدى كابوس قديم.
كانت الألعاب متوقفة، والظلال تغطي الجدران، ووجوه الأشباح والدمى تطل من كل زاوية، تراقبني بصمت.
لطالما نبذتُ الملاهي منذ أن نساني أبي وحيدًا أمام تلك العجلة المخيفة، إذ كان عقله غارقًا في سكره وضياعه، تاركًا في روحي ندبةً عميقة لا تبرأ.
لكن الفتاة التفتت إليَّ، ونظرت بعينيها الممتلئتين برجاء يائس، كأنها تتوسل أن أكون خلاصها.
شعرت بشيء غامض يجذبني نحوها، كأنني أعود إلى العجلات الدوارة التي فررت منها في صغري، أو كأني أواجه أبي بحقيقة ما فعله بي.
ورغم علمي بمرض قلبي، تبعتُها؛ فقد كان شعور قديم يسيطر عليَّ، خوفٌ مرير يسري في عروقي كأنين موقوف يطلب الحياة.
وكانت كل خطوة نحوها تمثل مواجهة لشبح الماضي، وللألم الذي ظننتُ أنني دفنته منذ زمن بعيد.
أما في حلمي فقد أصررت على ألا أكون سببًا في تكرار تلك القصة المأساوية، اتخذت قرارًا ألّا أتركها وحدها تواجه الخوف الذي كنت يومًا أواجهه.
لقد رأيت ذلك في نظرتها إليَّ، حينها أدركت أنني لا أستطيع الهروب مجددًا، فأن أكون هنا يعني أن أتحمل تبعات اختياري، وأن أواجه مخاوفي.
كل ما كنت أريده هو إنقاذها، لكنني أيضًا كنت خائفًا، خائفًا في أعماقي، لأنني محاصر في دوامة من الألم والهجران والخزي، محاولًا ألا أكون الشخص الذي يُهجر، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة أعمق مخاوفي...
في اليوم التالي، ظننتُ أنه مجرد كابوس. لكن في الليلة التالية... عدت للحلم نفسه.
المكان ذاته. المدينة المهجورة، الألعاب المتوقفة، الفتاة... وكأنني محاصر في دوامة لا فكاك منها. كنت أركض خلفها، وفي لحظة ما... سمعتُ صراخها، صرخة مروعة تشقُّ الصمت.
اتبعتها حتى رأيتها تقف بجوار عجلة فيريس ضخمة، أكبر من أي شيء رأيته في حياتي.
كانت العجلة ترتفع، وكأنها تلامس السماء. حاولت الوصول إليها، لكنني استيقظت، وكأن قلبي اقتلع من مكانه.
في الليلة الثالثة... عدتُ إلى الحلم مجددًا. هذه المرة كنت على ارتفاع شاهق، أكثر مما يتحمله قلبي، أرى الفتاة واقفة بجانب عجلة الفيريس العملاقة.
إلى جانبها، كان يقف الرجل المخيف، ذلك الذي رأيته يهبط من الجسر ليلاحقها. صرختُ، واندفعت نحوها بأقصى سرعة.
لكن عندما اقتربت منها، ورأيت ملامحها المألوفة، ابتسمت وكشفت عن أسنان صفراء رعبت وجداني بشكل ما، لكنها سرعان ما دفعتني بقوة نحو العجلة.
عندها بدأت العجلة تدور بي، ومع كل دورة، كانت الأرض من حولي تتفكك وتنهار. شعرت بألم قاتل يخترق قلبي، كأني أعيش لحظات موتي المحتوم.
في صباح اليوم التالي، الذي أعتقد أنه اليوم، كنت أعاني من ألم لا يوصف في صدري. ذهبتُ إلى طبيبي، فأرسلني إليك لأنه لم يكن بيده حل.
لم أكن أعلم إلى أين أذهب... إلى أين أهرب من هذا الألم وذاك الحلم. قضيتُ الأربعين عامًا التي عشتها بعيدًا عن ارتباك القلب، ولكن هذا الحلم...
فتحتُ عيني أخيرًا ونظرت إلى السقف، أسترجع شريط الأحداث أمامي مرةً أخرى. صمتُّ برهة، أبحث في جيوب بنطالي عن سجائري، في حين كانت دقات الساعة، التي لم تتوقف لحظةً في عقلي، تتسارع بشكلٍ غريب، كأنها تُذكِّرني بمرارة الوقت.
وحين كنت أنهي حديثي، حدث ما بدا لي كأنه وهمٌ مخيف، غير قابل للتصديق. دخلت إلى الغرفة فتاة، وجهها هو ذاته وجه الفتاة من الحلم.
الشعر القصير نفسه، القبعة المزركشة نفسها، والنظرة المفعمة بالحزن العميق نفسها.
شلَّني الذهول. كيف يكون هذا ممكنًا؟ كيف يمكن أن تتحول كوابيسي إلى حقيقة أمام عيني؟
بدأت في النهوض، وقلبي ينبض بعنف كأنه يحاول الفرار من صدري. شعرت بدماء تنبض في عروقي كالسهم، تتسابق مع الزمن في سباق مع الخوف.
فجأة، تباطأت نبضاته المتسارعة، وكأن الحياة تنسحب مني شيئًا فشيئًا، تخطف أنفاسي كما تخطف عاصفة عاتية أوراق الشجر.
ثم عادت لتتدفق بقوة أكبر، وكأنها تسعى لإنقاذي من غياهب الفوضى التي تكتنف روحي، محملةً بأصوات الهمسات المقلقة التي تلاحقني.
شعرت بالعجز الكامل، وعيناي تبحثان بجنون عن مخرج. حتى وقع بصري على النافذة، فاندفعت نحوها دون تفكير.
خرجت مني صرخة مبحوحة: "قلبي... قلبي!"، وقبل أن أستوعب ما يحدث، كنت قد ألقيت بنفسي من الطابق الحادي عشر، هاربًا من كابوس أدركت أنه لن أستطيع الاستيقاظ منه أبدًا.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.