حلم الكفيف أن يبصر، وحلم الفقير أن يغنى، وحلم العابدين أن يرضى عليهم، فما بالك بحُلم الكاتب؟
أداعب اللغة وتُداعِبُني نجلس معاً لنَحتَسِي أفكارنا في كأس فنجان عتيق كأن يبدو عديم اللون كمشاعرنا، جالستها طويلاً حتى فجاءتني ذات يومٍ بحمل أسميناه في ما بعد "أفكار عميقة" كان ذاك المولود الجديد يلمس ما بداخلنا أعمق مكان في القلب وأعمق ما في لا وعينا، كنّا نحبّه لأنه يمتّع عقول البشر جَاعِلٌ من خيالهم يصبح أوسع أكثر فأكثر، كانوا يجدونه "أفكار مثيرة للقراءة" لم أكن أدرك آنذاك ثقل المسؤولية التي سأتحمّلها، عِبء زوجة تدعى اللغة وابنٌ بأفكار عميقة كان ذلك شاقاً جداً، في الليل وحينما تكون السّماء صافية وخاليةً من الغيوم تمتلئ بلَآلِئِ النجوم في منتصف الليل بالضبط حينما يحلّ السكون حينما يظهر القمر متربعاً العرش فوق اللآلئ كان ينير بيت غرفتي المظلمة.
اجلس في مكتبتي وحيداً لم يكن أنِيسي إلّا قلماً وورقةً جافّة اللون وعشيقتي اللغة وابنها العاق أنا أسميه هكذا لأنه كان يأتيني ليلاً ويزعجني، لم أكن أستطيع النوم بسببه أصبحت هزيلاً كئيباً مرمياً في أقذر مكانٍ في غرفتي، لم يعد للوقت قيمته هنا ولا المال ولا حتى الأكل، أغلى كنوزي كان قلما وورقة لطختها بدمي، لم أكن أحبّ الحبر، لا يستطيع أن يوصل ما أشعر به، ما يزعجني بداخلي، ما يجعلني في أسوء حالتي وأحسنها، لذلك كنت أضع روحي في كل كتابة اكتبها فحتى إن مِتُ أنا سيبقى ما أكتبه حيّ في قلوبكم (هذا ما كنت أعتقده).
لكن البشر كائنات معقدة جداً لا يمكن أن تفهمهم بسهولة فحتى المصاحف والأناجيل لم تعُد تهزّ كيانهم فما بالك بالكُتَّابِ أمثَلُنا، قليل هم المميّزون الذين يجدون المتعة في قراءة ما أكتبه وبعضهم من يفهم الرسالة الخفية خلف كل قطعة تركتها خلفي كل قطعة كتبتها كانت جزءاً مني، أنا أنتزعني، اسْلَخُني حي، وأقتلني ببطء، من أجل أن تستمتع أنت، ولكن تنسى متعة ما قرأته وما كتبته بعد الانتهاء مباشرة، فالنسيان كان وما زال أعظم نعمة ونقمة أُعطِيتْ للبشر، ونسيان الألم من النعم لكن نسيان قطعتي أنا أعدّها نقمة كلا بل جريمة يجب أن تحاسب من أجلها.
ذات يوم كانت السّماء مشرقة لكن ما زالت غرفتي مكاناً محرماً لذلك الانبعاث لم يُقَدَّر لها قط أن تتذوق طعم النور كان ذلك حقاً صعباً أن أنظر من النافذة فأرى ما خلف الزجاج إن أردت وصف المكان فهو أقرب ما يقال إنه كان (مكاناً مشرقاً جداً، تملؤه السّعادة، ابتسامة في كل مكان، أطفال يمسكون بأيدي آبائهم ويقودونهم نحو سيارة المثلجات ومن كثرة رؤيتي لهم أصبحت متقناً لقراءة شفاههم، كان يقول أحد الأطفال "بابا أرجوك اشترِ لي بعض المثلجات" أغلقت النافذة لم يكن ذلك ممتعاً كيف لهم السّعادة ولي هذا العبء؟ هذا ما كنت أفكر فيه لكن جاءتني فكرة غريبة كأن شخصا آخر بداخلي كان يحاورني.
قال: ربما هم أيضًا يمتلكون غرفة مثلنا لكنهم يتفوقون علينا بشيء ما، هم يجدون التمثيل لذلك يستطيعون العيش في ذاك المكان المشرق أمّا نحن فلا، هم يجدون الكذب كأنه طُبع في حمضهم النووي منذ الولادة أمّا نحن فلا، هم غيّروا المال من عادة إلى عبادة أمّا نحن فلا.
سنظلّ على صِبْغتِنا التي صُبغنا عليها أول مرّة قبل أن نكون في الوجود حتى لذلك لا تعطِ للأمر اهتماماً كبيراً أكبر ممّا يستحقّ.
الكاتب يحمل عبء كتابته لذلك يجب أن يكون حذراً أثناء الهمس بأفكاره أمام أُذُنيْ القارئ، لذلك دائماً ما كنتُ أداعب اللغة برفق، واعتني بابني العاق حتى وإن لم يُعجبني ذلك، أضعكم أمامي فأنسى نفسي في الخلف كانت الوحيدة التي سألتني لماذا تتألم دائماً وكانت الوحيدة التي تَخَليتُ عنها مقابل البشر، لكن هم أيضًا تخلو عني هاه أعتقد أنها الكارما، المصائب تأتيني من كل فج عميق، ولم تعلم أنني شخص ذو جسد هزيل لا يقدر على كل هاته الضربات.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.