رسالةٌ مقروءةٌ من بريد ريما الإلكترونيّ...
عزيزتي ريما...
أعلم أنّ أسلوبي في تفضيل الكتابة لك عن طريق البريد الإلكتروني في ظلّ وجود وسائل التّواصل الآنيّة سيظلّ بالنّسبة لك غريباً، لكنّني أشعر أنّ الكتابة تفتح باباً جديداً كلّ مرّة أتطهّر به من جهة، وتقرئين صفحةً جديدةً من كتابي من جهة أخرى.
اقرأ أيضاً ملخص رواية ساق البامبو للكاتب سعود السنعوسي
ملخص رواية "لوحة كولاج"
ما زلت لا أصدّق أنّني أصبحت وزيراً للسّعادة، يقولون هنا في وطني إنّ فاقد الشّيء لا يعطيه، لكنّي أعطي السّعادة؛ لأنّني ببساطة لمست أسرارها منذ الصّغر، منذ أن كنت أستمدّ مصدرها من أسما.
في الثّامنة من عمري كنت هزيلاً، ضعيف البنية، ومظهر تلك النّظارة الّتي أصرّ والدي عليها لعلاج قصر النّظر بدلاً من الجراحات الحديثة يزيد من هذا الشّعور.
أتعلمين؟ لقد أحببت وقتها أن أرى الابتسامة على وجوه من حولي في المدرسة، دائماً كنت مركز دائرة من الضّحكات والابتسامات، لم أفهم أبداً سبب تلك السّعادة ذلك الحين.
الطّفل بداخلي يتساءل: كيف تمنح تصرفاتٍ مثل ضربي على رأسي، أو عرقلتي حين أقوم لكتابة الإجابة الصّحيحة على اللّوحة الإلكترونيّة في المدرسة، ثمّ أسمع أحدهم يطلق عليّ لقب المغفّل، لأنّني أتعثّر برباط حذائي، فيصدّقه المدرّس دائماً بذلك القدر من الابتسام، فهل أخذ حقيبتي، ولعب الكرة بها بكلّ أنواعها سواء كانت بالقدم أم باليد تعطي نوعاً جديداً من السّعادة؟
اقرأ أيضاً الكاتب حسن الجندي وأحدث إصداراته.. تزامناً مع معرض زايد للكتاب
اكتشاف الأم حقيقة التنمر على ابنها
اكتشفت أمّي ذات مرة ما يحدث لي، قالت لي صارخة:
- لا بّد أن تقول لوالدك.
- قلت لها: لا أريد، ثمّ إنّه لن يصدقّني..
أذكر أنّها جرّتني إلى غرفة النّوم حيث كان، قالت له:
- صدّام يريد أن يخبرك شيئاً...
وقَفتُ وأنا لا أدري كيف أبدأ، حكيت له ما حدث بكلمات أكملتْ نصفها أمّي، قال لي:
- بالتّأكيد أنت تختلق الأمر، لماذا لا تكون مثل أخيك مسالماً؟
وحين جاء أخي مؤكّداً كلامي أهانه أبي، قال له:
- لا بدّ أن تؤكّد كلامه، فأنت ذيلٌ له...
انصرفت من أمامه وأنا أربّت على كتف أخي حتّى لا يحزن، أنظر لأمّي قائلاً لها كلمات لم تتجاوز حلقي:
- لقد كنت على صواب، أنا أعرفه أكثر منك على ما يبدو...
أقنعت أمي وقتها بأنّني ربّما سبب جعله الله لهؤلاء لكي أسعدهم!
اقرأ أيضاً قراءة نقدية لرواية شوق الدرويش.. تعرف على أحداثها وملخصها
أمي ومشكلتي مع التنمر
تحدّثت أمّي لمدير المدرسة في اليوم الآتي في حوار لم يتّسم بالهدوء على الإطلاق، سمعت كلمات متطايرة وأنا في الخارج، كانت غريبة على مسامعي: "التّنمّر الّذي يحدث لولدي لن أسكت عنه"، لم أفهم ما معنى التّنمّر.
لكنّ ما أعرفه أنّ الضّحك والسّعادة على وجوه الأولاد والبنات بسببي لم يتوقّف، فقط أصبح أكثر حذراً، هنا استسلمت للأمر الواقع، خاصّة أنّه ما من أحد قريب يصدّقني بخلاف أمّي الّتي كنت أحبّ ابتسامتها الّتي ظهرت من جديد حين قلت لها بأنّ كلّ شيء أصبح على ما يرام.
بعد ذلك بأربع سنواتٍ ظهرت أسما.
كانت كالنّور وسط ظلام اليوم الدّراسيّ، لماذا يقولون لها: إنّها قبيحة؟ ومنذ متى كانت الغمازتان علامة للقبح؟
يقومون معها بنفس الحركات كما عرفتُ من صديقاتها، فهي تصغرني بعامٍ واحدٍ، لكنّي معها كنت أعرف معنى الأمان، جرّبت طعماّ جديداً للسّعادة.
نجلس تحت تلك الشّجرة الضّخمة الّتي لم أعرف نوعها أبداً، نقتسم أكلنا وشربنا، فرحنا وحزننا، قصصنا وأحلامنا، ابتدعتُ بدعة جديدة أحبّتها كثيراً، نضع لبعضنا رسائل فيها أكثر ما أسعدنا في نهاية كلّ يوم، لي حفرة ولها حفرة، وكنّا نحافظ على أن نقرأها منفصلين، تلك الرّسائل مثّلت شحنة كهرباء السّعادة في روحي كلّ يوم.
أظنّ عزيزتي ريما أنّك تعلمين الآن سبب حبّي للرّسائل المطوّلة والمكتوبة، إنّها تحمل دوماً طعم المشاعر، وكانت رائحة الورق، وقلم الرّصاص الّذي كنّا نستخدمه بيننا وما زلت أستخدمه في تسجيل ملاحظاتي -وليست الأقلام الإلكترونيّة- تساعد على ذلك، وتحمل إدماناً لنا من نوع خاصّ.
قصة حزن أسما
في يومٍ من الأيّام كانت أسما حزينة؛ لأنّ فتاة من الفصل أجبرتها على إعطاء طعامها لها، لم تكن حزينة؛ لأنّها سُرقَت، بل لأنّها لم تجد ما تقتسمه معي من جهتها -ذلك اليوم- غير تلك الحكاية، نعتَتهَا بالقبيحة مرّة أخرى، قلت لها بأن تفعل شيئاً تثبت به أنّها أقوى من الجميع رغم وزنها الزّائد في نظرهم.
وجدت رسالتها في اليوم التّالي بعد غيابها، أحتفظ بها إلى اليوم:
"أحبك يا صدّام، أنت الوحيد الّذي يدعمني، أنت قوّتي ومصدر سعادتي الّتي لا تنتهي، قل للجميع بأنّني قويّة، وأنّني أستطيع أخذ قرارات لا تستطيع المدرسة بأكملها أن تتّخذها، أنا آسفة".
لفّ عقلي الغباء، بعد المدرسة جريت حتّى بيتها، شعرت أنّ خلف الأسف أفول شمس سعادتي، وقد كان..
انتحار أسما
قفزتْ واحتضنتْ ذلك الوحش الّذي يهرب منه النّاس؛ لتثبت أنّها الأقوى من كلّ من أبكى عينها بالقول أو بالفعل، وكذا أصبحت أنا أيضاً منذ وقتها أخافه بشدّة، الموت.
رغم أنّه الحقيقة الوحيدة في الكون، فإنني ما زلت لا أفهم كينونة تلك القوّة الكاسحة الّتي تجعل أحدهم يقرر إنهاء حياته، يتجاوز خوف القرار، وخوف التّصرّف، وخوف مشاهدة الرّوح تتسرّب منطلقةً إلى سماء المجهول السّرمديّة.
أذكر كلّ آه صرخت بها -وسط دموعي- حتّى سمعتها الطّيور المهاجرة في سماء أرض المقدّسات، آه في الطّريق، آه في فناء منزلها عند سماعي الخبر، آه في المقابر بعد أن أصررت على الحضور؛ لأتأكّد من رقّة حضن الأرض لجسدها، وآه بصوت الرّعد تحت شجرتنا الّتي أسميتها أسما.
قرّرت أن أجعل كلّ النّاس سعداء كأسما، فرحين كأسما، أقوياء دون موت كأسما.
استبدلت بالنّظارة العدسات الحديثة كنوعٍ من التّمرّد غير المعلن على أبي والمجتمع، درست سيكولوجيّة السّعادة وعلم الاجتماع، ورميت -بفضل الإصرار- حلّة الطّفل الهزيل.
تمرّ السّنوات وأصبحُ -ويا لسخرية القدر- وزيراً للسّعادة، أبحث في سبب انتحار بعضهم في وطني تماماً كأسما.
كل ما أعرفه أنّني لا بدّ أن أنجح في وظيفتي الإنسانيّة أكثر من أجل إنهاء ما بدأته، لأقاوم الموت كعادتي، ولأنتقم ممّن تسبّبوا في هذا الوجع لي ولمن حولي.
وجع انتحار أسما، هذا سرٌّ من أسراري أبوح به لأوّل مرة لك، ولك فقط؛ لأنّني أعلم أنّك هنا دائماً من أجلي، فأنت المتنفّس يا عزيزتي..
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.