حصان الشاير سلالة خيول مهيبة تجمع بين القوة الجبارة والوداعة الآسرة نشأت في مراعي إنجلترا الخضراء، يُعرف عن استحقاق بلقب «العملاق اللطيف»، ويُعد هذا الشاير -بأصوله التي تمتد لقرون وبحجمه الذي يجعله من أضخم الخيول في العالم- رمزًا للقوة العاملة التي بنت جزءًا من التاريخ الزراعي والصناعي، أدى الشاير دورًا محوريًا قبل عصر الآلة، واقترب من حافة الاندثار، لكنه عاد ليحظى بالتقدير كونه جزءًا ثمين من التراث الحي.
يستكشف هذا المقال تاريخ سلالة الشاير العريقة، بدءًا من نشأتها وتطورها، مرورًا بخصائصها الفريدة ودورها التاريخي، وصولًا إلى وضعها الحالي وجهود الحفاظ عليها كونها إرثًا حيًّا للأجيال القادمة.
موطن حصان الشاير.. تاريخ السلالة الإنجليزية العريقة
في قلب الريف الإنجليزي الأخضر، حيث تتعانق السهول مع السماء وتتمايل الأشجار على أنغام الرياح الهادئة، وُلدت سلالة فريدة من نوعها، تُدعى الشاير، هذا الحصان الجميل الذي يحمل في ملامحه هيبة الملوك ووداعة الأطفال، يُعد من أعرق وأضخم سلالات خيول الجر (Draft Horses) في العالم.
يعود أصل الشاير إلى منطقة وسط إنجلترا، تحديدًا مقاطعات مثل لينكولنشاير وديربيشاير وليسترشاير، وقد تشكَّلت سلالته تدريجيًّا عبر قرون من التهجين المدروس بين خيول فلامنكية وفريزية كانت قد استُقدمت إلى بريطانيا العظمى من هولندا وبلجيكا، ويعتقد أنها سليلة الحصان العظيم (Great Horse) المستخدم في العصور الوسطى.
ومع الزمن، تطوَّرت هذه الخيول لتلائم طبيعة الأراضي الإنجليزية وتلبية احتياجات الإنسان، خاصة في الزراعة والنقل. وقد جمع الشاير في بنيته بين القوة الهائلة والهدوء العميق؛ ما جعله شريكًا مثاليًّا في حياة الفلاحين والنقَّالين.
التطور والاعتراف الرسمي.. دور روبرت باكويل وجمعية الشاير
مع أنَّ خُطا التهجين والتحسين النَّسَلي بدأت فعليًّا على يد المُربِّي الشهير روبرت باكويل في أواخر القرن الثامن عشر، فإنَّ الاعتراف الرسمي بالسلالة تأخَّر حتى القرن التاسع عشر، مع تأسيس جمعية خيول الشاير (Shire Horse Society) عام 1884، بعد أن كانت تعرف سابقًا باسم جمعية خيول الجر الإنجليزية التي تأسست عام 1878، وقد مثَّل هذا الحدث منعطفًا حاسمًا، إذْ تمَّ الفصل نهائيًّا بينه وبين قريبه الاسكتلندي، حصان كلايدسدال (Clydesdale)، لتبدأ مسيرة الشاير كونها سلالةٍ مُستقلّةٍ بكلِّ ما في الكلمة من معنى مع سجل أنساب (studbook) ومعايير سلالة محددة.
العصر الذهبي لصحان الشاير.. ركيزة الزراعة والصناعة والنقل الثقيل
في العقود التي تلت تأسيس الجمعية، برز الشاير كونه أحد أعمدة النهضة الصناعية والزراعية في بريطانيا وخارجها، إذ جرى تصديره بكثافة إلى أمريكا الشمالية، وقد أسهم في نقل الأخشاب والمحاصيل والبضائع عبر أراضٍ شاسعة، وكان يُعتمد عليه في مهمات ثقيلة لا يقدر عليها أي حصان آخر.
كانت قوته مضربًا للأمثال، وقدرته على الجر مذهلة إلى حد جعلته ركيزة أساسية في البنية التحتية للبلدان التي استقبلته.
خطر انقراض حصان الشاير.. تأثير عصر المحركات والآلات
لاقي حصان الشير خطر الانقراض كما هو الحال مع كثير من أدوات الماضي، جاء عصر الآلة والمحرِّك ليُقصي الشاير تدريجيًّا من ساحات العمل. وبحلول منتصف القرن العشرين، كانت أعداده في تراجعٍ شديد الخطر، واقترب من حافة الانقراض.
جهود الحفاظ على سلالة حصان الشاير
غير أن جهودًا حثيثة بذلها عشاق هذه الخيول أعادت الأمل لهذه السلالة، لتشهد صحوة في أواخر القرن العشرين، مدفوعة بالوعي المتزايد بقيمة التراث الحيواني والحفاظ على التنوع البيولوجي.
مواصفات حصان الشاير.. العملاق اللطيف عن قرب - الحجم والمظهر والطبع
يتميَّز حصان الشاير بمظهره الأخَّاذ الذي يجمع بين الضخامة والجمال، ويتمتَّع بجسد عضلي ضخم، فيتراوح ارتفاعه عادة بين 17 و 18 شبرًا (Hands) أي ما يعادل 173-183 سم عند الحارك (Withers)، وقد يتجاوز ذلك، ويصل وزنه غالبًا إلى ما بين 900 و 1100 كجم (نحو 2000-2400 رطل) أو أكثر، ما يجعله أحد أثقل وأطول سلالات الخيول. ورأس بارز بانحناء مميز، ويُعرف بالأنف الروماني Roman nose)، وفراء داكن (الألوان الشائعة هي الأسود، البني الداكن (Bay)، الكستنائي الداكن (Brown)، والرمادي (Grey))، تتخلله علامات بيضاء ناصعة على الرأس والأرجل، تُفضل عادة أربع جوارب بيضاء وعلامة بيضاء على الوجه وفقًا لمعايير السلالة، وأطراف سفلية مغطاة بزَغَب كثيف يُعرف باسم «الريش» (Feathering).
هذه الزوائد الشعرية تزيده روعةً، وتمنحه طابعًا ملكيًّا ساحرًا، ولا عجب أن يُلقَّب بـ«العملاق اللطيف» (Gentle Giant)، فهو على الرغم من ضخامته، ذو طبع ودود وروح مطيعة وصبورة وهادئة، ما جعله محبوبًا وسهل التعامل معه لدى الأطفال والكبار على حد سواء.
حصان الشاير من العمل الشاق إلى العروض والاحتفالات
ورغم قلَّة استخدامه في الزراعة الحديثة، لا يزال الشاير يحظى بحضور قوي في المناسبات العامة والعروض الدعائية، لا سيما من الشركات البريطانية والأسترالية التي تُوظفه في عروضها الاحتفالية ليجر عربات ضخمة مزينة بديكورات تقليدية، مذكرًا بالماضي العريق.
الانتشار العالمي لحصان الشاير ومستقبل السلالة
لقد وصل حصان الشاير اليوم إلى عدد من بلدان العالم، منها أوروبا، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، ويحظى هناك برعاية لا سيما في المزارع والمعارض، ومع أنَّ أعداده قد تكون محدودة، فإن حب الناس له وشغفهم بجماله وقيمته التاريخية يكفلان بقاءه، ليس فقط بوصفه حيوانًا، بل كونه رمزًا حيٍّ لذاكرة الإنسان الفروسية، ولعلاقةٍ عميقة بين الطبيعة والبشر.
إن حصان الشاير ليس فقط سلالة خيول ضخمة، بل هو تجسيد حي للتاريخ، وشاهد على عصور تغيرت فيها علاقة الإنسان بالأرض والعمل، ورحلته من حقول إنجلترا وشوارعها الصناعية إلى حلبات العرض ومكانته كونه تراثًا عالميًّا، تحكي قصة القوة والمرونة والتكيف. ومزيجه الفريد من الحجم الهائل والطبع الوديع (العملاق اللطيف) يأسِر القلوب. وعلى الرغم من أن أعداده لا تزال تتطلب العناية وتصنيفه كـ(معرض للخطر) في موطنه الأصلي يذكرنا بأهمية الحفاظ عليه، فإن الجهود المستمرة لعشاقه تضمن بقاء هذا الرمز المهيب، ليظل يذكرنا بقوة الطبيعة وجمالها وعمق الرابطة بين الإنسان والحيوان.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.