حسن الكرمي اسمٌ رسّخ حضوره في الوجدان العربي، ليس فقط بفضل صوته الإذاعي الشهير، بل بما قدَّمه للغة العربية من معاجم ومؤلفات خالدة، وُلِد في فلسطين، وانطلق منها ليصبح أحد أعلام الثقافة في العالم العربي والغرب على السواء، تنقَّل بين التعليم والإعلام والترجمة، وأنتج برنامج «قول على قول» الذي استمر أكثر من 30 عامًا، حتى لُقِّب حسن الكرمي بـ«زيتونة فلسطين» و«جسر الترجمة».
قليلون هم من يتركون بصمة راسخة في سماء الثقافة العربية تمتد عبر مجالات الأدب والإعلام واللغة كما فعل حسن الكرمي هذا الأديب والإذاعي واللغوي الفلسطيني، ابن طولكرم وعائلة الكرمي العريقة، أصبح صوته وفكره جسرًا للتواصل والمعرفة لملايين العرب عبر أثير إذاعة BBC العربية وبرنامجه الشهير (قول على قول)، يُعد الأديب والإعلامي الفلسطيني الكبير حسن الكرمي من علامات اللغة العربية والترجمة، إضافة إلى جميع جهوده الإذاعية الكبيرة التي وجَّهها لخدمة الثقافة والشعر العربي، ولحسن الكرمي مؤلفات مهمة في مجال المعاجم والقواميس الإنجليزية-العربية، وهو ما يجعلنا أمام عالم لغوي ومثقف موسوعي، وإحدى علامات الثقافة العربية في القرن العشرين.
نتعرف في هذا المقال على مسيرة حسن الكرمي الحافلة ونشأته وتعليمه، مرورًا بعمله الإذاعي الرائد ومعاجمه اللغوية القيمة، وصولًا إلى مكانته وتكريمه، وأبرز محطات حياته، من النشأة حتى الوفاة، وجهوده اللغوية ومكانته بين الزعماء والمثقفين.
ميلاد ونشأة حسن الكرمي
وُلِدَ حسن سعيد الكرمي في شهر يوليو عام 1905 في مدينة طولكرم في فلسطين لعائلة ذات مكانة كبيرة، إذ كان والده العالِم والوزير سعيد الكرمي، وكان جده الشيخ علي بن منصور الكرمي، في حين أصبح إخوته من صفوة ومشاهير المجتمع، فكان أخوه الشاعر عبد الكريم الكرمي المعروف بأبي سلمى، وأخوه السياسي عبد الغني الكرمي، وأخوه الأديب أحمد شاكر الكرمي، وأخوه الأديب محمود الكرمي؛ لذا، كان من الطبيعي أن ينشأ حسن سعيد الكرمي محبًا للمعرفة والثقافة ومبدعًا من الدرجة الأولى.
تلقَّى حسن سعيد الكرمي تعليمه الأول في مدينة طولكرم، وبعدها انتقل إلى مدينة دمشق السورية، وتلقَّى هناك التعليم الثانوي حيث كان والده يعمل في مجمع اللغة العربية بدمشق، وهي المدة التي التقى فيها حسن الكرمي بعدد من الطلاب الذين أصبح لهم شأن بعد ذلك في الحركة الأدبية العربية، مثل زكي المحاسيني وأنور العطار، قبل أن يلتحق بالكلية الإنجليزية في القدس عام 1925.
تخرَّج حسن الكرمي في الكلية وعمل مدرسًا للغة الإنجليزية في مدينة الرملة، ثم انتقل إلى الدراسة في الكلية العربية بالقدس، وفي عام 1938، حصل على منحة دراسية في بريطانيا، وهناك تخصَّص في أصول التربية والتعليم وتعلَّم الإحصاء التربوي في جامعة لندن، قبل أن يحصل على بعثة دراسية أخرى من المجلس البريطاني عام 1945، وهو ما سمح له بالتعرُّف على الثقافة الإنجليزية والاطلاع على الكتب والمعاجم والقواميس على نحو موسّع.
مسيرة حسن الكرمي المهنية من التعليم إلى أثير الـBBC
كانت أولى المحطات المهمة في حياة حسن الكرمي هي تعيينه في إدارة المعارف الفلسطينية، وذلك بعد عودته إلى فلسطين مباشرة، قبل أن ينتقل إلى العمل في البنك العربي. وفي عام 1948، انتسب حسن الكرمي إلى هيئة الإذاعة البريطانية القسم العربي (BBC Arabic).
في الإذاعة البريطانية، وجد حسن الكرمي نفسه في مهمات عدة، إذ كان يعد سلسلة تعليم اللغة الإنجليزية، وكذلك كان يعمل مراقبًا للغة، فكان مسؤولًا عن المذيعين الذين يقرؤون نشرات الأخبار، فكان يدون الأخطاء اللغوية أو أخطاء الترجمة ويصححها بعد ذلك قبل إذاعة هذه الفقرات.
كان العمل في الإذاعة البريطانية فرصة للأديب واللغوي حسن الكرمي لكي يتنقَّل بين دول عدة في أثناء تغطية الأحداث، وعلى هذا تعرَّف على عدد من الثقافات والتقاليد، واكتسب كثيرًا من المفردات اللغوية الجديدة قبل أن يعود إلى لندن التي شهدت بزوغ نجمه وذيوع صيته سنوات طويلة.
علاقات حسن الكرمي بالزعماء العرب
نتيجة عمله في الإذاعة البريطانية وتنقُّله بين بلدان وأقطار عربية عدة، إضافة إلى سمعة عائلته الكبيرة وثقافته الموسوعية وأدبه الجم، استطاع حسن الكرمي أن يرتبط بعلاقات صداقة قوية بعدد من الزعماء العرب على مدار سنوات طويلة، وعلى رأسهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز آل سعود، إضافة إلى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، والرئيس العراقي أحمد حسن البكر، وملك المغرب محمد الخامس.
وجمعت حسن الكرمي صداقة قوية برئيس دولة الإمارات العربية المتحدة زايد بن سلطان آل نهيان، وملك ليبيا إدريس السنوسي الذي استقبله في ليبيا وطلب منه الإجابة عن سؤال يخص بيتًا من الشعر.
وإضافة إلى علاقته بالرؤساء العرب، كان حسن الكرمي أيضًا يتمتع بصداقات قوية مع الرؤساء الأفارقة، وعلى رأسهم رئيس دولة غانا كوامي نكروما. وكان الرئيس المصري جمال عبد الناصر يرغب في أن يقوم حسن الكرمي بعمل برنامج في الإذاعة المصرية يشابه برنامجه في الإذاعة البريطانية لكن الأمر لم يتم.
شغف حسن الكرمي باللغة العربية وجهود معجمية رائدة
عُرف عن الأديب واللغوي والإذاعي الكبير حسن الكرمي اهتمامه الشديد باللغة العربية، إذ سعى جاهدًا أن يطورها بتطوير المعاجم العربية الأحادية والثنائية، كما فرز كل ترجمات القرآن باللغة الإنجليزية، وعمل كثيرًا على تغيير طريقة ترجمة الأخبار السياسية والاقتصادية.
ولعل الجهود الكبيرة التي قام بها حسن الكرمي في اللغة العربية تظهر في مؤلفاته من المعاجم التي وضعها على مدار سنوات، وأشهرها «معجم المنار» و«معجم المغني الكبير» و«معجم المغني الأكبر» وهو من أشهر المعاجم الإنجليزية-العربية الذي احتاج إلى وقت طويل ومجهود هائل من أجل إتمامه، وهي المعاجم التي عدَّها حسن الكرمي مشروعه الشخصي ورسالته التي يرغب في أدائها في ميدان اللغة العربية.
حسن الكرمي وبرنامج «قول على قول»
بدأت فكرة البرنامج الشهير عندما كان حسن الكرمي مشغولًا بمحاولة توضيح بعض المعلومات التي تخص اللغة العربية ومعانيها وأساليبها، ومحاولة تحقيق استفادة كبيرة للناس من العامة والطلاب والعاملين في مجال اللغة. وهو ما دفعه إلى تقديم فكرة البرنامج الذي يعتمد على ذكر أبيات الشعر والأقوال والحِكم، وذكر المناسبات التي قيلت فيها، واستعانته بالأشخاص الملمين بالشعر العربي وباللغة العربية، وكان يمتلك مكتبة شعرية كبيرة ساعدته على تنفيذ الفكرة.
كان برنامج «قول على قول» من أشهر البرامج في الإذاعة البريطانية، وحقق كل الأهداف التي سعى إليها حسن الكرمي، وانطلاقًا منه تعرَّف الناس على الأديب والإذاعي والمثقف الكبير، وظهر كثير من الأشخاص الذين حاولوا تقليد البرنامج في إذاعات وبلدان عدة، وهو ما لم ينجح نظرًا لثقافة حسن الكرمي الواسعة وإلمامه الواسع باللغة العربية والشعر العربي.
ومع هذا النجاح الكبير لبرنامج «قول على قول»، استمر البرنامج واستمر حسن الكرمي في تقديمه نحو 33 عامًا حتى بعد تقاعده من وظيفته في الإذاعة البريطانية في أواخر الستينيات، إضافة إلى طبع كتاب من 13 مجلدًا يضم حلقات البرنامج لكيلا تنتهي التجربة مع انتهاء بث برنامج «قول على قول».
تكريم حسن الكرمي
حصل الشاعر والإذاعي واللغوي الكبير حسن الكرمي على تكريمات وأوسمة عدة على مدار حياته التي امتدت أكثر من 100 عام. ومن بين هذه التكريمات حصوله على وسام الإمبراطورية البريطانية عام 1969 من ملكة بريطانيا إليزابيث، وذلك بعد جهوده الكبيرة وإسهاماته الملحوظة في الإذاعة البريطانية، وهو التكريم الذي شهده قصر باكنغهام الملكي في العاصمة لندن.
كذلك حصل حسن الكرمي على وسام القدس للثقافة والآداب عام 1990 من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وذلك لجهوده الكبيرة والملحوظة في الثقافة العربية وخدمة اللغة.
وفي عام 1983، كرَّم مجمع اللغة العربية في الأردن الشاعر واللغوي الفلسطيني حسن الكرمي، بمنحه لقب عضوية الشرف في المجمع، وفي عام 2006، منحته جمعية المترجمين العرب الدكتوراه الفخرية.
أعمال حسن الكرمي
تعدَّدت أعمال الأديب واللغوي والإذاعي الكبير حسن الكرمي بين المؤلفات اللغوية والأدبية والأعمال المترجمة، ولعل أبرز أعماله المنشورة ما يلي:
- قاموس المنار إنجليزي/عربي عام 1971
- سلسلة معاجم المغني إنجليزي/عربي وعربي/إنجليزي ومن بينها المغني الأكبر، والوسيط، والوجيز
- معجم الهادي إلى لغة العرب، معجم عربي عام 1991
- طبقة الفقهاء
- مجلدات «قول على قول»
- مذكرات حسن الكرمي
- ترجمة كتاب «البخلاء» للجاحظ إلى اللغة الإنجليزية
- ترجمة كتاب «التفكير المستقيم والمتعرج» للكاتب روبرت ثاولس عام 1979
- ترجمة كتاب «العرب والمسلمون في الأندلس» للكاتب للكاتب هنري شارلس لي عام 1988
- ترجمة كتاب «خروج العرب من إسبانيا»
وفاة حسن الكرمي
توفي حسن الكرمي يوم 5 مايو عام 2007 في العاصمة الأردنية عمَّان، بعد رحلة طويلة اقتربت من 102 عام من الثقافة والعمل الإذاعي والنضال في مجال اللغة العربية، وبعد أن حقق شهرة كبيرة بوصفه مذيعًا وأحد رواد الثقافة العربية، وأُطلق عليه الناس ألقاب عدة منها «زيتونة فلسطين» ومنها «جسر الترجمة»، توفِّي الأديب والإذاعي واللغوي الكبير حسن الكرمي تاركًا خلفه عددًا من الآثار المهمة والكثير من الطلاب والمحبين والسائرين على دربه.
يظل حسن الكرمي قامة ثقافية عربية شامخة، جمع بين عمق المعرفة اللغوية وسحر الأداء الإذاعي ورصانة الفكر، لقد قدم نموذجًا للمثقف الموسوعي الذي كرس حياته لخدمة لغته وثقافته، وبنى جسورًا من التواصل بين الشرق والغرب، وسيبقى برنامجه (قول على قول) ومعاجمه القيمة إرثًا خالدًا تستفيد منه الأجيال القادمة، وتظل سيرته مصدر إلهام لكل باحث عن المعرفة ولكل محب للغة العربية.
وفي نهاية هذا المقال، نرجو أن تكون جولتنا في تجربة الأديب الفلسطيني الكبير حسن الكرمي قد قدمت لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.