حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة والأكثر غموضًا وإثارة للجدل، تلك الأعجوبة التي تردد اسمها في كتب التاريخ القديم تجمع بين سحر الأسطورة وغموض الحقائق التاريخية، صورة لواحة خضراء متدرجة ترتفع نحو السماء في قلب صحراء بلاد الرافدين أسرت الخيال لقرون، هل بناها نبوخذ نصر الثاني لزوجته الحالمة بجبال بلادها، أم هي منسوبة خطأً لسميراميس الأسطورية؟ والأهم، هل كانت موجودة فعلًا في بابل، أم أن الحقيقة تكمن في مكان آخر كما تشير أحدث البحوث؟
ندعوك في هذا المقال لرحلة عبر التاريخ والأساطير والأدلة المتضاربة لكشف حقيقة هذه الحدائق الأسطورية والأعجوبة المفقودة، متتبعين جذورها في الكتابات القديمة والروايات المتناقلة، ومحللين الآراء المتضاربة بين المؤرخين والباحثين في وجودها وموقعها الحقيقي. مستعرضين أبرز النظريات الحديثة في حقيقة حدائق بابل المعلقة وفك طلاسم هذا اللغز التاريخي، بما في ذلك الاقتراح الجريء بنقل موقعها من بابل إلى نينوى على يد الملك الآشوري سنحاريب. فلننطلق في هذه الجولة الشيقة بين صفحات التاريخ والأسطورة، لنستكشف معًا حقيقة أعجوبة بابل التي أسرت خيال الأجيال.
حكاية حدائق بابل المعلقة
تقول الحكاية إن مدينة بابل كانت عاصمة للإمبراطورية الحديثة في عهد الملك «نبوخذ نصر الثاني» في القرن السادس قبل الميلاد، فقد أسسها والده «نبو بلاصر» بعد أن انتصر على الإمبراطورية الآشورية، ثم أكمل نبوخذ نصر المسيرة التي شهدت عددًا من الانتصارات الكبيرة، ثم شرع الملك نبوخذ نصر في تطوير المدينة وجعلها أروع المدن الموجودة في العالم في ذلك الوقت، إذ بنى بوابة عشتار وأبراجها الرائعة، إضافة إلى رسوم الحيوانات الأسطورية والحقيقية، كما بنى الملك سورًا مزدوجًا حول المدينة.
وبذلك تتحدث الأصوات التي تؤكد وجود حدائق بابل المعلقة أن الملك نبوخذ نصر الثاني أنشأ حدائق بابل المعلقة في ذلك التوقيت، وأن شهرتها ذاعت في آفاق العالم القديم.
وأشارت كتابات عدة إلى أن حدائق بابل المعلقة هي نفسها حدائق سميراميس المعلقة التي أُنشئت في عهد الحاكمة الآشورية «سيميراميس»، وعلى الرغم من أن تاريخ سيميراميس نفسه يعد شبه أسطوري، فإن الأقوال التي تؤكد وجودها تقول إنها أعادت بناء مدينة بابل مرة أخرى في القرن التاسع قبل الميلاد.
وكان المؤرخ الإغريقي الشهير «هيرودوت» قد وصف مدينة بابل وأسوارها الرائعة ونظام الإرواء المدهش، فإنه لم يتحدث أبدًا عن حدائق بابل المعلقة، وعلى الرغم من أن المدرجات الحجرية قد جاءت في مذكرات «بيروسوس» الذي تحدث عن وجود أشجار وزهور، ما خلق مظهرًا جماليًّا مبدعًا على هذه المدرجات، فإنه أيضًا لم يتحدث عن حدائق بابل المعلقة بصورة تفصيلية.
فكرة حدائق بابل المعلقة
على مستوى الفكرة، فإن مسألة زراعة الحدائق لأغراض جمالية وليس لأغراض إنتاج الطعام، فقد كانت فكرة قديمة ظهرت في وادي النيل وأرجاء البحر المتوسط القديم، وكان النبلاء والملوك في العصر الهيلينستي ينشؤون حدائقهم الخاصة في منازلهم، إذ كانوا يجمعون الزهور والنباتات النادرة، إضافة إلى المعالم المعمارية الرائعة، التي تضمنت نحت المدرجات والمنشآت المائية، وهو ما يجعلنا ننظر إلى فكرة حدائق بابل المعلقة بعدِّها فكرة ممكنة وليست خيالية، لا سيما في بلاد العراق التي كان لها شهرة كبيرة كونها مجتمعًا زراعيًّا على مر التاريخ.
ثم إن حدائق بابل المعلقة لم تكن هي الحدائق الأولى في بلاد العراق، فتوجد بعض الرسوم والآثار التاريخية التي تبرز حدائق أخرى، وبعض هذه اللوحات موجودة في المتحف البريطاني في لندن، وهو ما جعل عددًا من الباحثين يقولون إن فكرة حدائق بابل المعلقة هي مجرد التباس تاريخي، نظرًا لآثار الحدائق المعلقة المرسومة على العديد من اللوحات التاريخية.
حدائق بابل المعلقة وعجائب الدنيا السبعة
وعلى الرغم من انعدام أي أدلة أو نصوص تاريخية أو حتى تأكيدات مدعومة من الباحثين والعلماء بوجود حدائق بابل المعلقة، فإنها دائمًا حاضرة في كتابات القدماء، وحفظت مكانها في قائمة عجائب الدنيا السبع، وهو أمر قد يعود إلى الفكرة الجميلة التي يرفض الأدباء والكتاب التخلي عنها، وربما يعود الأمر إلى أن الإغريق هم من كتبوا قوائم عجائب الدنيا السبعة في البداية، وكما نعرف فإن كتابة التاريخ عند الإغريق يختلط فيها الواقع بالأسطورة.
ثم إن عددًا من النصوص القديمة قد ذكرت حدائق بابل المعلقة، وعلى رأسها نص لأحد الرهبان الذين عملوا في الفلك والتاريخ، وهو الراهب «برعوثا»، وكذلك المؤرخ «ديودور الصقلي» الذي ذكر وصفًا تفصيليًّا لحدائق بابل المعلقة، وقال في مجلده الثاني إن مساحتها تتجاوز 14 ألف متر مربع، وكانت على شكل طبقات أو مدرجات بعضها فوق بعض، يصل ارتفاعها إلى نحو 50 ذراعًا، وتشبه المسارح اليونانية، إضافة إلى احتوائها على الممرات المغطاة بطبقات القصب والطوب والرصاص.
ثم إن تصميم حدائق بابل المعلقة كان يحتوي على المساكن الملكية، والآلات التي ترفع المياه إلى القمة. وهي أوصاف دقيقة، لكنها لا تحدد مكان حدائق بابل المعلقة، وهو ما يطعن في صحتها من الأساس.
حدائق بابل المعلقة والبحوث الحديثة
لعل أبرز البحوث الحديثة التي تناولت حدائق بابل المعلقة هي بحوث «ستيفان دالي» المتخصصة في التاريخ الشرقي والدراسات الشرقية، والمهتمة بصفة خاصة بمنطقة بلاد ما بين النهرين، إذ جمعت ستيفان دالي عددًا من البحوث على مدار 20 عامًا، وخرجت بنظرية خاصة بها بعد اطلاعها على اللوحات الموجودة في المتحف البريطاني.
والنظرية مفادها أن كل بحوث علماء الآثار كانت في اتجاه خاطئ، وأن الاتجاه الصحيح للبحث هو في نينوى وليس في بابل، حيث قصر الملك «سنحاريب» الذي ينتمي إلى الحضارة الآشورية التي سبقت الملك نبوخذ نصر.
وطبقًا لهذه النظرية، قد تكون حدائق بابل المعلقة هي المذكورة في وصف الملك سنحاريب لمدينته وقصره وأعماله في المذكرات الموجودة في المتحف البريطاني، إذ تحدث عن أنواع مختلفة من النباتات والأشجار، متحدثًا أيضًا عن قصره الذي يحيطه سياج عالٍ، ودرجات مزخرفة ومزينة بالنباتات، وهو ما يُعد افتراضًا جادًا من الباحثة الإنجليزية الذي ربما يقود إلى معرفة المكان الحقيقي لحدائق بابل المعلقة.
وعلى الرغم من اختلاف الآراء وتضاربها أحيانًا في حقيقة حدائق بابل المعلقة، تظل تحتل مكانة كبيرة في أذهان الناس جيلًا بعد جيل، ونظل نتحدث عنها بكونها إحدى عجائب الدنيا السبع.
ختامًا، تظل حدائق بابل المعلقة لغزًا يأسر العقول مثالًا صارخًا على قوة الأسطورة وقدرتها على البقاء حتى في غياب الأدلة المادية القاطعة، سواء كانت تحفة نبوخذ نصر المفقودة في بابل، أو إبداع سنحاريب المنسي في نينوى كما تقترح ستيفاني دالي، فإن فكرة الجنة المعلقة في قلب الصحراء ستبقى واحدة من أروع صور الإرث الحضاري لبلاد الرافدين، رحلة البحث عن حقيقتها مستمرة، لكن مكانتها في قائمة العجائب وفي خيالنا الجماعي تبدو ثابتة لا تتزعزع.
وفي الأخير، نرجو أن يكون مقالنا عن حدائق بابل المعلقة قد قدم لك المتعة والإضافة، ويسعدنا كثيرًا أن تشاركنا رأيك في التعليقات، ومشاركة المقال على مواقع التواصل لتعم الفائدة على الجميع.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.