«حبر الروح».. قصة قصيرة

تركض مسرعةً صوب طرف القرية، لا تلتفت إلى أحد، بل لم تنتبه إلى أحد، فقد شغلتها الحيرة التي تملأ قلبها عن كل ما يدور حولها.

 تنساب في طريقها الذي اعتادت على قطعه مرات عدة في الأسبوع، فهي تعرف مواضع الصخور فيها، وشكل الأشجار وثمارها.

 تحفظ منحنيات ذلك الطريق ومنعطفاته، علوه تارة وهبوطه تارة أخرى، وتعرف عدد القفزات التي يجب عليها أن تقفزها لتعبر الجدول الصغير آخر الحواجز بينها وبين كوخ العم علي.

فتحت باب الكوخ الذي لم يعرف القفل يومًا، فقد اكتفى العم علي بوضع مزلاج خشبي تغير شكله مع مرور السنين، وعبثت به كثرة لمس الأيادي له حتى بدا كأنه نُحت على عجل.

- صرخت: لقد زارني مرة أخرى يا عم علي!

دوت صرختها في أرجاء الكوخ، اصطدمت بجدرانه وعادت إليها بلا رد، استدارت مسرعة، وتوجهت إلى باحة الكوخ الخلفية، حيث اعتاد العم علي قضاء غالب وقته في حقله الصغير.

لوحت بيدها البيضاء النحيلة:

- عم علي، لقد زارني!

 رفع العم علي رأسه ووضع الفأس أرضًا، وعلى الرغم من تقدم السن الذي ترك آثاره على قدميه، لكنه حاول تسريع خطاه نحوها بتوسيع مواضع خطواته على الأرض.

حين وصل إليها لفظا معًا وفي الوقت ذاته:

- ابحثي، إنه قريب منك.

مريم فتاة عادية، بدأت تشعر مؤخرًا بأنها تواجه صعوبة في التكيف مع محيطها، تفتقد روح الوجود ورغبة الاستمرارية، اعتادت زيارة العم علي طلبًا للمساعدة الذي كان ينجح في إرشادها دونما إعياء، لكن هذه المرة امتنع عن ذلك، تاركًا مريم في مواجهة مع حيرتها التي لم يكن امتناع العم علي سببها الوحيد؛ فمؤخرًا بدأت ترى حلمًا متكررًا لشخص مجهول يزورها في أوقات متقطعة ليخبرها رسالة قصيرة ويمضي.

اعتادت مريم زيارة كوخ عم علي طلبًا للمساعدة

أشار العم علي إلى شجرة التين القريبة منهما، وخطا نحوها بخطا ثقيلة؛ ليستظلا تحتها هربًا من قيظ الظهيرة ولهيب المحنة، لحقته وهي مطأطئة رأسها، تجر الرجاء في فهم ما يحدث خلفها.

جلسا وأخرج غليونه العتيق، قال:

- ثمة أسرار إن كشفت لك عبر آخرين تفقد جوهرها وتصبح بلا معنى؛ لأنها سلكت طريقًا ليس لها، فالوصول إلى الحقيقة بنفسك أهم من الحقيقة ذاتها.

هزت مريم رأسها ولم تنبس بكلمة.

نفث من غليونه سحابةً سرعان ما تلاشت، ثم تابع:

- أتدرين أن كشف المرء عن الجانب المستور من الأمور يجعله أكثر حكمة؟

صمت قليلًا، مسح جبينه، وتابع:

- الحكمة كالمُلك، هي أيضًا تورث، وهي أقرب إليك من أي شيء آخر إذا بحثت في نفسك أولًا.

أدركت مريم من كلامه رفضه الضمني للبوح لها بالسر، وقفت وهمّت بالمغادرة، فاستوقفها قائلًا:

- لا تعودي إلى هنا إلا ومعك شيء مختلف يا مريم.

ذات صباح أحدثت مجموعة من العصافير ضجة بالقرب من نافذة غرفة مريم التي تطل على حديقة منزلها، فتحت النافذة فرأت العصافير مبعثرة على الأرض، قد جار عليها الجوع، وما كان وجودها هنا إلا نوعًا من طلب الطعام.

توجهت نحو المطبخ، وعادت بصحن مملوء بحبات الأرز، نثرتها لتلك العصافير التي بدأت تقترب ويزداد عددها، شعرت بشيء ما يتدفق داخلها، لم تستوعبه، لكن كانت كأنها ضربات كهربائية تنعش مريضًا أشرف على هاوية الموت، جلست تفكر في كلام العم علي، كشف الجانب المستور من الأمور بنفسك يجعلك أكثر حكمة!

سمعت في ممر غرفتها والدها الضرير الذي يلتمس طريقه نحو الخارج فهرعت إلى مساعدته، ضمها إليه وتحسس بيده جبينها؛ ليطبع فوقه قبلة أعادت ذلك الشيء للسريان في داخلها من جديد.

بقيت مريم على تلك الحال قرابة الشهرين تساعد الجميع وتبحث عن تفسير ذلك الحلم دون توقف، ذات صباح بعد أن رأت الحلم مجددًا لم تغادر سريرها، كانت غارقة في التفكير، حتى قطعت سكونها نقرات أحد العصافير بالقرب من نافذتها، فهرعت لإطعامه، وفيما هي تفعل ذلك سمعت وقع خطوات والدها أمام غرفتها وطرق يده على باب غرفتها:

- ابنتي، لم أسمع صوتك اليوم، هل أنت بخير؟

لم يحدث هذا من قبل، لم يحدث أن اهتم لأمرها أحد، برق في مخيلتها تفسير الحلم: (ابحثي، إنه قريب منك).

تقدمُ لتنال! تعطي لتأخذ!

القيمة، نعم قيمة المرء ما يفعل!

تذكرت العم علي، فخرجت مسرعة إلى كوخه الدافئ، شعرت بأن لا نهاية لهذا الطريق الذي خبرته أكثر من غيرها، وعندما بدأ الكوخ بالظهور لها لمحت تجمعًا من الرجال أمامه منهمكين في لملمة شيء ما على الأرض، عبرت الجدول بخطوات مثقلة بالخوف، اقتربت ببطء، ثبتت نظرها على ذلك الشيء الذي يحمله الرجال على الأكتاف.

 وقفت جامدة فيما مر تابوت العم علي من أمامها، وهي تتمتم:

- كشفت الجانب المستور وحدي.

فقدحت في ذاكرتها جملته الأخيرة: «الحكمة كالملك، هي أيضًا تورث»، تيقنت أن تلك الجملة ما كانت سوى وصية شفهية لها كتبت بحبر الروح الذي لا يبهت أبدًا بتتالي السنين عليه، فهي وريثة ملكه الآن، هي من تحمل شعلة إرشاد الحيارى من بعده.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.