جيل التسعينيات تفاصيل صغيرة من أرشيف الطفولة

كانت الرياض في التسعينيات تشبهنا كثيرًا ببساطتها، بعيونها المتسعة كقلوبنا، وبأيامها التي تمر ببطء، وكأنها كانت تنتظر أن نحفظ كل تفصيلة فيها جيدًا.
في تلك السنوات لم تكن المدينة أو الحياة بوجه عام سريعة كما الآن، بل كانت تتنفس على مهل، وتدعونا للركض في أزقتها، وتمنحنا وقتًا لنعيش الحكاية كاملة.

صباحات المدرسة تبدأ على أنغام مذياع في زاوية المطبخ يتلو آيات من القرآن قبل أن تبدأ الأم في إعداد الساندويتشات. كان الوقت حينها له طعم آخر: فجر دافئ، وسماء لم تخدشها الإضاءة الصناعية.. كنا نرتدي المريول أو الثوب الصغير، نحمل حقائبنا، ونمشي إلى المدرسة بخطى تملؤها السذاجة والفضول والفرحة لمقابلة زملائنا والمعلمين الذين أثّروا في نفوسنا إلى الآن.

في الفُسحة كنا نأكل بـ«ريال» ما يُشبع القلب، ونضحك بلا سبب.. نشتري من المقصف «شيبسي البطاطس» ونشرب «عصير بيردي» أو «سن توب» في علبة ورقية.. لم نكن نعرف بعد عن «إنستغرام» يوثّق لحظاتنا، لكنها انحفرت فينا بطريقة أصدق.

البيت بعد الظهر هادئ كما لو أن المدينة نائمة.. نرمي الحقائب ونجلس أمام التلفاز نتابع كرتون «أبطال الديجيتال»، أو «المحقق كونان»، «سالي»، «كابتن ماجد» و«كابتن رابح»، وأعيننا تتوهج باندماج صادق.. نغني شارات المسلسلات بكل ما فينا من شغف، ونحزن على شخصيات الكرتون وكأنهم أصدقاء حقيقيون.

أما الطلعات فكانت للضروريات فقط، لكنها كانت أشبه بالعيد.. زيارة إلى «سوق صحارى»، أو جولة في «التحلية» أو بعض المنتزهات كانت تجربة لا تُنسى.. نقف أمام واجهات محلات الألعاب ونطلب من أهلنا شراء شريط جديد للبلايستيشن، أو قصة من «العبيكان» أو «جرير». وكانت الطلعات يومي الخميس والجمعة.

وفي رمضان كانت الأجواء لا تشبه إلا نفسها.. الفوانيس تلمع في الشوارع، والمساجد تمتلئ بأصوات المصلين، والمائدة المميزة في رمضان والتي لا تخلو من «الفيمتو» و«السمبوسة» و«الشوربة» و«الحلا المميز». وصلاة التراويح كانت موعدًا روحيًا ننتظره، نمشي إليها على الرصيف ونحن نحمل سبحًا صغيرة في أيدينا، والهواء الصيفي يلفح وجوهنا بلطافة لا تُنسى.. ومن أكثر الذكريات المرتبطة بطفولة رمضان مسلسل «بابا فرحان» الذي كنا ننتظره ونتعلم به الصفات النبيلة من رمضان للآخر.

العيد كان صباحًا يشبه النشيد الوطني، حماسي، مهيب، ولبس جديد، حلاقة جديدة، وكيس فيه ريالات معدنية نحفظه في جيوبنا وكأنه كنز.. ونمر على الجيران، نأخذ حلاوة ونقول «عساكم من عواده»، ونضحك عندما نسمع صوت المفرقعات في الحي، وكأن العيد لا يكتمل بدونها.

وحتى وقت الغروب كانت له نكهة. شوارع الرياض تذوب في اللون البرتقالي، وقلوبنا تمتلئ بشعور لا اسم له، ولكنه أقرب ما يكون للسلام.

اليوم كبرنا.. الشوارع ازدحمت، والوقت صار يركض منا، لكن شيئًا من تلك الأيام لا يزال حيًا فينا. ربما هو صوت ضحكة، أو لعبة قديمة، أو صورة تتسلل فجأة في ذاكرتنا من خلف ستار مزدحم، تطرح البسمة على وجهنا والحنين إلى قلوبنا... ليتها دامت تلك الأيام.

كلمة أخيرة لهذا الجيل...
يا جيل التسعينيات، أنتم لستم مجرد مرحلة مرت، أنتم ذاكرة وطن، أرشيف مشاعر، ومتحف حنين.. كبرتم نعم، لكن لا زال داخلكم ذلك الطفل الذي يركض خلف شريط بلايستيشن جديد، ويخاف أن يفوته كرتون «ريمي» في العصر.. حافظوا على ما تبقى فيكم من تلك السنوات، ولا تُفرِّطوا في البساطة التي ربتكم، فأنتم جيل التفاصيل الصغيرة، والقلوب الكبيرة.

ملاحظة: المقالات والمشاركات والتعليقات المنشورة بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل الرأي الرسمي لجوَّك بل تمثل وجهة نظر كاتبها ونحن لا نتحمل أي مسؤولية أو ضرر بسبب هذا المحتوى.

ما رأيك بما قرأت؟
إذا أعجبك المقال اضغط زر متابعة الكاتب وشارك المقال مع أصدقائك على مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتسنى للكاتب نشر المزيد من المقالات الجديدة والمفيدة والإيجابية..

تعليقات

يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.