يُعد «جورج جاك دانتون» من أكثر الشخصيات البارزة في الثورة الفرنسية، وغالبًا ما يُذكر إلى جانب شخصيات كانت نهايتها مأساوية، مثل «جان بول مارا» و«روبسبيير» الذي تحدثنا عنه في مقال سابق.
لكن على عكس هذا الأخير، تميز دانتون ببراغماتيته واعتداله؛ ما أكسبه سمعة المنقذ للثورة، إذ حاول وضع حدٍّ لعهد الإرهاب. ومع ذلك فقد شابت سمعته أسطورة سوداء تصفه بأنه سياسي طمَّاع وفاسد، بل ومشتبه في خيانته للوطن. هذا التناقض يظهر غموض شخصيته، تاركًا وراءه لغزًا عن دوافعه الحقيقية.
وُلِد جورج جاك دانتون في 26 أكتوبر 1759 في أركي-سور-أوب بمنطقة الشامبان، وسط عائلة برجوازية، وبعد دراسته في الكلية الصغيرة في بلدته، التحق وهو في الثالثة عشرة من عمره بالمدرسة الإكليريكية في تروا، لكنه سرعان ما أدرك أن الحياة الدينية لا تناسبه.
في عام 1780، بدأ العمل كاتبًا لدى أحد المحامين في باريس، ثم أصبح محاميًا متدربًا بعد حصوله على شهادة في القانون من جامعة ريمس. زواجه بأنطوانيت غابرييل شاربانتييه، ابنة أحد أصحاب الحانات، عام 1787 مكَّنه من شراء مكتب محاماة في باريس. حتى عام 1789، لم يكن يوجد ما يشير إلى الصعود السريع الذي سيشهده خلال الثورة.
عشية اقتحام الباستيل، أصبح دانتون محرضًا بارزًا، إذ أثار سكان حيه، وقاد أولى أعماله الثورية باختطاف الحاكم المؤقت لسجن الباستيل. وبفضل خطابه البليغ، وقامته الضخمة، والكاريزما الفريدة التي كان يتميز بها -على الرغم من ملامحه القاسية- جذب الجماهير بخطاباته النارية. فانتُخب بالإجماع رئيسًا لدائرته، وخاض معارك شرسة ضد استبداد بلدية باريس، وكان نشطًا في الأندية السياسية مثل نادي الكوردولييه ونادي اليعاقبة.
وتزامن صعود دانتون السياسي مع سقوط الملكية، خاصة بعد هروب واعتقال لويس السادس عشر في فارين في 10 أغسطس 1792، خلال اقتحام قصر التويلري، لينتقل دانتون من كونه قائدًا محليًّا إلى شخصية مركزية في الثورة. تخلى عن مهنته بأنه محامٍ ليتفرغ للسياسة، وباع مكتبه في باريس ليشتري عددًا من الممتلكات المصادرة في أركي-سور-أوب، ما عزز الشائعات عن فساده.
عيَّنت الجمعية التشريعية دانتون وزيرًا للعدل، وأحاط نفسه بمقربين مثل «كميل ديمولان» و«فابر ديغلانتين». لكن رفض ماكسيمليان روبسبيار الانضمام إلى مجلسه القضائي أوجد عداءً بينهما، ممهِّدًا لمنافسة مستقبلية.
وفي ظل اجتياح بروسيا لفرنسا، أيَّد دانتون بشكل غير مباشر مذابح سبتمبر 1792، إذ قال: «كان هذا الإعدام ضروريًا لتهدئة شعب باريس».
بصفته وزيرًا فعليًّا للحرب، زار جبهات القتال وألقى خطابًا شهيرًا أمام الجمعية، داعيًا إلى الجرأة لإنقاذ الوطن. لتُمثل معركة فالمي في 20 سبتمبر 1792 نقطة تحول، إذ أوقفت الغزو البروسي؛ ما عزز سمعته كونه منقذ الجمهورية.
وترك دانتون منصب الوزير ليصبح نائبًا في المؤتمر الوطني، إذ صوَّت لمصلحة إعدام لويس السادس عشر في يناير 1793. وفي الوقت نفسه، عانى مأساة شخصية بوفاة زوجته في أثناء ولادة طفلهما الثالث.
على الرغم من تعزية روبسبيير له، ظل دانتون معزولًا سياسيًّا، وتزوج مجددًا في يونيو 1793 بفتاة تبلغ 16 عامًا، وسرعان ما استأنف نشاطه الثوري بانضمامه إلى لجنة السلامة العامة، ومع فشله في تحقيق السلام مع القوى الأوروبية خاصة إنجلترا. أُجبر لاحقًا على التخلي عن منصبه لمصلحة روبسبيير الذي حوَّل اللجنة إلى أداة استبداد وقمع.
وبلغت شعبية دانتون ذروتها، لكن اتهامات الفساد والتعاون مع الملكيات الأوروبية شوَّهت سمعته. على الرغم من استمراره في التشريع، مثل فرض التجنيد الإجباري وإنشاء مدرسة جمهورية مجانية، قرر مغادرة باريس مؤقتًا.
في أثناء غيابه، تآمر ضده خصومه، بقيادة روبسبيير، ما عزز الشكوك في نزاهته.
لكن على الرغم من ثروته المتزايدة خلال الثورة، لم توجد أدلة قاطعة على فساده. صحيح أن شائعات انتشرت عن تلقيه أموالًا من «ميرابو» والملوك الأوروبيين، لكن لم تُقدَّم أي أدلة مادية على ذلك. وستزداد الشكوك فيما بعد حوله، بسبب رحلته إلى إنجلترا وعلاقاته الغامضة بـ«فيليب دورليان».
وكان دانتون معارضًا بشدة لعهد الإرهاب، وسعى لإنهائه بمساعدة كميل ديمولان وصحيفته «لو فيو كوردولييه»، لكن روبسبيير رأى في دعواتهما للاعتدال تهديدًا، فأمر باعتقالهما في 30 مارس 1794.
خلال محاكمته هزَّ دانتون المحكمة بخطاباته القوية، لكنه مُنع لاحقًا من الدفاع عن نفسه، وحُكم عليه بالإعدام.
كانت كلماته الأخيرة إلى الجلاد «شارل هنري سانسون» مشهورة: «لا تنسَ أن تُري رأسي للشعب، فهو يستحق المشاهدة!»، لكنه أيضًا وجَّه رسالة تحذير إلى روبسبيير وهو في طريقه إلى المقصلة: «روبسبيير، ستلحق بي قريبًا!». وفعلًا، تحققت هذه النبوءة بعد بضعة أشهر، عندما أُعدم روبسبيير في 28 يوليو 1794.
وتظل شخصية جورج جاك دانتون مثيرة للجدل، فوفقًا لبعضهم كان منقذًا للثورة، في حين يراه آخرون فاسدًا غامض الدوافع. فكانت الثورة الفرنسية مرحلة مضطربة، ودور دانتون، بمزيجه من البطولة والشكوك، لا يزال محط اهتمام المؤرخين.
دانتون من الشخصيات التي أثارت جدلا كبيرا، وفي تاريخنا شخصيات كثيرة تحمل وجه الشبه معه إلى حد كبير. شكرا لصاحب المقال على هذه الإلتفاتة.
يجب عليك تسجيل الدخول أولاً لإضافة تعليق.